دفاعًا عن فلاسفة الإسلام ـ بقلم محمد عبد المعطى ـ واعظ باللغات الأجنبية بمجمع البحوث الإسلامية
قد يزعم زاعم أو يدعى مدعٍ، أن الفلسفة والتفلسف أحد روافد الانحراف، وطريق نهايته الإلحاد، ثم نراه يغمز ويلمز فى فلاسفة الإسلام، وإن لم يرمهم بالكفر والإلحاد، وصفهم بالزيغ والضلال، وكل ذلك لما أُثر عن الفلاسفة من كلام عقلى فى الغيبيات ومباحث الوجود، تتفق أحيانًا مع فلاسفة اليونان فى بعض الأمور، وقد تتباين فى ظاهرها مع بعض المعتقدات الإسلامية، مع أن لهم فيها فلسفة أخرى، لكنه سوء الظن الذى سيطر على العقول وما يزال.
إن المسكين لا يدرى أن هؤلاء الفلاسفة كانوا قادة الفكر الحر فى أزمانهم، وقد لاقوا فى سبيل ذلك كثيرًا من الاضطهاد، والسجن، وحرق الكتب، والنفى، والتشريد.
لكنهم رغم ذلك عقول فارقة قد أبدعت فى ميادين شتى؛ فاستطاعوا أن يخترقوا الحواجز ويعبروا الحدود؛ محاولين التعرف على ثقافات الأمم الأخرى؛ ليشاركوهم فى أفكارهم ومنتهى آرائهم، بتفاعل إيجابى وتلاقح حضارى مثمر، يحترم العقل ويقدر الفكر، ويدافع عن الدين، ولم يأخذوا أنفسهم بالتقوقع، وضيق الأفق بآراء غيرهم أن يصنعوا حاجزًا بينهم وبين الآخرين؛ لأنهم أدركوا مبكرًا أن الحضارة الإنسانية لا وطن لها، إنما هى عمل تراكمى تسهم فيه جميع الأجناس والأمم.
وإذا كنا اليوم فى القرن الواحد والعشرين نعانى السطحية والسذاجة فى التفكير، ونعانى الفكر الدينى النصي، والذى انبثق عنه الفهم الخاطئ والتطرف والإرهاب؛ مما أدى إلى التخلف والرجعية، فإذا كنا نعانى آثار ذلك وندعو إلى التعمق والتعقل، وفهم الأمور على ضوء عللها ومقاصدها، فإن الفكر الفلسفى الإسلامي- ممثلًا فى فلاسفتنا العظام- قد دعا منذ القدم إلى فهم الدين وفق المقاييس العقلية، التى لا يدفعها- كما قال الكندى- إلا من حُرم صورة العقل، واتحد بصورة الجهل.
وإذا كنا قد أيقنا أن حوارنا مع الغرب وكثير من أهل الملل الأخرى، ينبغى أن يكون حوارًا عقليًّا محضًا، يقارع الحجة بالحجة، ويعتمد على المنطق والبرهان الموصل إلى الإقناع، فإن هذا بعينه هو ما فعله فلاسفتنا العظام، ودعوا إليه منذ القدم.
وإذا كانت الحضارة الغربية (المادية) المعاصرة ومغرياتها قد أوصلت شريحة كبيرة من مفكرى الغرب وفلاسفتهم ومن تأثر بهم إلى الإلحاد، وإنكار وجود الله، والقول بالصدفة، فإن فلاسفة الإسلام منذ القدم قد واجهوا ذلك بالحجة والمنطق والتدليل، فأثبتوا أنه ليس فى الطبيعة شيء عبث وبلا علة، ومن ثم فلا محل للصدفة والطبيعية، وإنما للكون علة أولى أوجدته، ودبرت أمره وما تزال، فى نظام وترتيب وإتقان بديع، وتسخير بعضه لبعض.
وإذا كان المسلمون فى مرحلة ما من تاريخهم قد أهملوا العلوم التطبيقية والعقلية، وغفلوا عن المعنى الشمولى للمعرفة، وقصَّروا فى وظيفتهم الحضارية التى أوكلهم الله إياها، فأخذت العلوم النظرية منهم حيّزًا كبيرًا ومبالغًا فى التصنيف والتدريس، بل نراهم قد غالوا فى بعضها، مدعين لها الأفضلية على سائر العلوم، فإننا فى المقابل نرى وعيًا مبكرًا عند فلاسفتنا العظام بهذا الأمر؛ إذ كانت الفلسفة فى نظرهم هى أم العلوم ومنبع الفنون، فتنوعت مواهبهم حتى شملت بجانب الفلسفة، الطب، والشريعة، والموسيقى، والفلك، والعلوم الرياضية والطبيعة، فرأينا مؤلفاتهم تشتمل على كثير من تلك العلوم وغيرها.
وإذا كانت الأخلاق هى جوهر الرسالات، ومنتهى غاية الأديان، وسبيل ارتقاء الإنسان، فإنها عند فلاسفتنا هى جوهر التفلسف، وحسبك أن تعرف أن موضوع الأخلاق قد أخذ عندهم حيّزًا كبيرًا، بل اشتهر به بعضهم (كمسكويه مثلًا)؛ لترى أنهم لم يدعوا أبدًا إلى فوضى الأخلاق أو نبذها، أو إلى الإباحية فى المجتمع، بل كانوا عاشقين للحكمة، محبين للمعرفة، زاهدين فى الملذات العارضة، مستمسكين بقيم الدين الخالدة.
إنهم قد فهموا مبكرًا أن التفكير الحر السليم لا يناقض أبدًا الفهم الصحيح للدين، وأن غاية الدين والفلسفة واحدة فى الوصول إلى الحق، ومحاولة الوقوف على حقائق الأشياء بقدر طاقة الإنسان، فالشريعة والحكمة (الفلسفة) متعاضدتان متناسقتان، لمن يعى ذلك.
وإنى مع حبى للفلسفة، واحترامى وتقديرى لأهلها، فلا أدعى لها القداسة، ولا أنكر- كذلك- بعض أخطائها، ولا أجزم بصحة آرائها، غير أننى أجد فى تباين أهلها، إثراءً وتكاملًا، وإعمالًا لنعمة العقل، وإثباتًا وتدليلًا وتعضيدًا للدين، وفهمًا لمقاصده وعلل تشريعاته وأحكامه، وأرى فيها أيضًا تلاقحًا مثمرًا بين الحضارات، وتواصلًا بناءً بين بنى الإنسان على امتداد التاريخ، وتباين الأوطان، وافتراق الأديان؛ بما يخدم حاجتنا الملحة إلى الحوار والتسامح ونبذ ثقافة الكراهية والشقاق، وإرساء ثقافة السلام والاستقرار بين جميع الشعوب.
فما آن لك أخى الكريم، أن تفتح صدرك، وتوسع أفقك، وتحترم العقول التى اجتهدت وأبدعت، وامتلكت الشجاعة، وأُوذيت فى سبيل آرائها، فأصابت وأخطأت، شأنها شأن جميع البشر.