التفـاؤل.. أسراره وأنواره


بقلم الدكتور/ أحمد علي سليمان
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بجمهورية مصر العربية

_________________

أيهذا الشّـــــــــــــــــــاكي وما بك داء كيـــف تغدو إذا غـــــــدوت عليلا؟
إنّ شرّ الجنــــــــاة في الأرض نفس تتوقّى، قبـــل الرّحيـــــــــل، الرّحيــــلا
وترى الشّوك في الورود، وتعمى أن تـــــــرى فوقهــــــــــا النّدى إكليلا
هو عبء علــــــــى الحيــــــــاة ثقيـل مَن يظــــــــــــنّ الحيـــــــاة عبئا ثقيـــــــــلا
والـــذي نفســــــــه بغــــــــــير جمــــــــال لا يرى فـــــي الوجود شيـــــئا جميلا
ليـــــس أشقى مّمن يــــرى العيــــش مـُـــــرًّا ويظـــــنّ اللّذات فيه فضـولا
أحكم النّــاس في الحيـــــــــــاة أناس عللّـــــــوهــا فأحســــــنوا التّعليــــــــــــلا
فتمتّع بالصّبــــــــح مـــــا دمت فيه لا تخــــــــف أن يــــــــــزول حتى يزولا
أيهــــذا الشـــــــــاكي ومــــا بك داء كـن جميلا ترى الوجـــــــود جميلا(1 )

_________________
بهذه الكلمات الجميلة نستهل حديثنا عن التفاؤل وأسراره، والقوة الجبارة الكائنة والكامنة فيه، والتي لولا توفيق الله الناس إليه؛ لساد اليأس فيهم، وتمكن القنوط منهم، وتغلب الإحباط على حياتهم…
لقد شاءت إرادة الله الحكيم ألا تكون الحياة ثابتة جامدة تسير على نمط ثابت، أو على وتيرة واحدة، بل أرادها متغيرة متبدلة متحولة، لا تمشي على إيقاع واحد، فيها المفرحات والمنغصات، فيها الخير والشر، فيها الغني والفقر، فيها الصحة والمرض، فيها العطاء والحرمان، فيها الطاعة والمعصية، فيها القوة والضعف… كما أراد الله أن يكون الابتلاء سنة كونية من سنن الله تعالى، وهو من طبيعة العيش في هذه الحياة؛ يأتي للتمحيص، والفرز والاختبار، ورفع الدرجات، وتكفير السيئات، ويأتي لتصحيح المسار، ولِحِكم كثيرة يعلمها الله، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)(الكهف: 7)، وقوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(العنكبوت: 2-3).
والتفاؤل منحة ربانية، له قيمة عظيمة، بيد أنه تتعاظم أهميته وقيمته ومكانته في معترك الحياة… في ضعفها وضغطها وملماتها وتحدياتها وآلامها بل وآمالها.
إن المربين النابهين هم أولئك الذين يزرعون التفاؤل والأمل في نفوس النشء؛ لتنمو أشجاره بعناية، وتؤتي ثماره مع دخولهم غمار الحياة.
لقد عَلَّمَنَا أهلونا، وأساتذتنا -قديما- التفاؤل والنظر إلى المستقبل ببصيرة الأمل، فمن الكلمات التي أُسقينا إياها صغارًا، ونعيش فيها، وتعيش فينا على الدوام (الخير قادم، الخير قادم، الخير قادم… المستقبل يحمل الخير)، فهذه الكلمات –التي يجب أن تكون حاضرة على الدوام في المناهج التربوية، والقوالب الإعلامية، والمناشط الثقافية، والدعوية- كفيلة بإقالة النفوس من عثراتها، واستنقاذها من مثبطاتها… كفيلة بتعبيد سبل الحياة وإصلاحها؛ للسير الآمن المطمئن فيها…
ويبقى للتفاؤل أسرار جليلة، وأنوار عظيمة؛ فهو من أهم المعينات الأساسية على انتظام حياة الناس وأشغالهم، وتحقيق الإنجازات، ولولاه لانهزم الإنسان عند اختباره في أول ملمة؛ لذلك حفل القرآن الكريم بعشرات الآيات، بل مئات الآيات التي يشع نورها أملا، وتفاؤلا وإقدامًا.


ماهية التفاؤل ومراتبه:
التَّفَاؤُل: مصدر من الفعل تَفاءلَ، وفي معاجم اللغة، التَّفَاؤُل يعني: الانْشِرَاحِ، وعَكْسُه التَّشَاؤُمِ، ومعنى قولهم: “تَفَاءلُوا بِالخَيْرِ تَجِدُوهُ”: أي غَلِّبُوا الخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ.
التفاؤل: هو استعداد نفسيّ يهيّئ لرؤية جانب الخير في الأشياء والأحداث، والاطمئنان إلى الحياة، ويساعد على تحمُّل مصاعبها.
وقيل: هو ميلٌ، أو نزوعٌ نحو النظر إلى الجانب الأفضل للأحداث أو الأحوال، وتوقعُ أفضلِ النتائج.
وأعلى مراتبِ التفاؤل:
توقعُ الشفاءِ عند المرض، والنجاحِ عند الفشل، والنصرِ عند الهزيمة، والفرجِ عن الكروب، وانقشاعِ الغمة عند المصائب والنوازل. والمؤمن -دائمًا- مقبل على ربه، مرتبط بمشيئته.


القرآن والتفاؤل:
التفاؤل صناعةٌ إسلامية بامتياز.. وإذا تأملنا القرآن الكريم، وتتبعناه؛ لوجدنا مئات الآيات التي تمنح الإنسان التفاؤل والقوة، فتزيد المؤمن قوة إيمان، وقوة رضا، وقوة تسليم، وقوة علم وعمل.
والتفاؤل له أسرار وأنوار جليلة، نستلهمها من إشعاع القرآن في آياته العظيمة، التي ترسم لنا طريق الأمل العريض؛ حتى نعيش فيه، ويعيش فينا بلا إفراط ولا تفريط، وننعم برحمات الله، وعونه على الدوام.
ويذكر د/ محمد بن عبد العزيز الخضيري أن “القرآن الكريم كتاب التفاؤل، والحيوية، والإيجابية، يبعث الناس على العمل، بل إنك تجد التفاؤل في القرآن من أول لحظة تقرأ فيها كلام الله. فأول آية في القرآن (بسم الله الرحمن الرحيم) تعني: استعانة بالله، هي عنوان التفاؤل.. ونجد التفاؤل في أول كلمة في سورة الفاتحة (الحمد لله) وهذا غاية الإعجاز والروعة والجمال والجلال! الحمد لله على نِعمه! أتذكر نِعم الله عليَّ في سمعي وفي بصري، في عقلي وفي فكري، في مجتمعي وأسرتي، في ديني ودنياي، أتذكر نِعم الله عليّ في أصل خلقتي، في هذا الهواء، وهذا الماء، وهذه السماء وهذه الأرض؛ فأقول الحمد لله.
وعندما تنظر إلى مستهل سورة البقرة (الـم* ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)(البقرة:1-2)، فإنك ستجد السورة مُصدرة بالهداية، وهي تفاؤل في أسمى معانيه، عندما تعلم أن هذا القرآن سيهديك للتي هي أقوم، ويدلك على كل خير، ستعلم أنك أمام كتاب يدفعك للعمل والنشاط، والنظرة الإيجابية، ويبعد عنك كل ما يعيقك عن العمل، والتقدم، والإبداع، والإثمار، والنفع العام، ولو تتبعنا القرآن كله؛ فسنجده كذلك.
فنرى -مثلا- نبي الله نوحًا (عليه الصلاة والسلام) يظل خمسين وتسعمائة عام يدعو قومه إلى الإيمان، (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)(العنكبوت: 14)، دعاهم ليلاً ونهارًا، سرًّا وجهارًا دون كلل أو ملل، ألا يبعث ذلك التفاؤل في نفوسنا؟! هذا النبي العظيم يظل هذه الحقبة الطويلة وهو في اتجاه معين يبين للناس شيئًا واحدًا، وهو توحيد الله -سبحانه وتعالى- لا يمل ولا يكل، يعمل بكل سبيل متاح له، وبكل أسلوب من أجل أن يحقق هدفه.
وهنا نجد أن الله- سبحانه وتعالى- يقول لنبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم) مطمئنا، ومقويا له: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)(الأحقاف: 35)، وليس هناك تناقض بين الصبر والتفاؤل- كلا-؛ فالتفاؤل ركنه الركين هو الصبر. وإذا كان الله قد قال: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)(البلد:4)، فيجب على الإنسان أن يكافح ويجاهد، وأن يتقدم ولا يتأخر، وأن يبدع وأن لا يتأثر بما يصيبه من أنكاد الحياة وأكدارها(2).
إن تقليب البصر، والبصيرة في كتاب الله الخالد، تبعث الأمل العريض في النفوس، يقول تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)(الزمر: 36)، ويقول أيضا: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد: 28)، أي: تسكنُ، وتستأنسُ بجلال الله؛ فتطمئن، ومن ثم يزول قلقها، واضطرابها، وقد وردت هذه الآية الكريمة في سورة الرعد، والرعد مخيف، فجاءت الآية لتبثَ الأمل، والتفاؤل، والطمأنينةَ، والسكينةَ في قلوب الذاكرين.
وليسعد معي أخي القارئ الكريم، ونحن نقتطف من بساتين القرآن الكريم عددا من الآيات –على سبيل المثال لا الحصر- التي تبعث الأمل والسكينة في النفوس، ومنها قوله تعالى: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(البقرة:216)، (فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)(النساء: 19)، (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)(النمل: 6)، (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ..)(الأعراف:156)، (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(آل عمران:37)، (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ)(آل عمران:39)، (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا)(الطلاق:1)، (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ)(التوبة:40)، (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ)(الطور: 48)، (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ…)(القصص: 7)، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الزمر: 53)، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ)(يوسف: 18)، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ)(البقرة: 186)، (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)(غافر:44)، (..فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)(الأنبياء: 87-88)، (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(آل عمران 140:139)، (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ)(آل عمران: 100)، (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(الأنبياء:83)، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)(يس: 82)، (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)(نوح: 10-12)، (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(التوبة: 51)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(آل عمران: 200)، (إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا)(الأنفال: 29)، (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)(الأنبياء: 89)، (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)(يوسف: 86)، (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (مريم:4)، (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) (المعارج:6-7)، (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(يوسف: 64)، (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) (القمر: 10)، (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ)(يونس: 3)، (فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(الصافات:87)، (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا)(الطلاق:1)، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق: 23)، (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(يوسف: 87)، (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ)(الضحى:3)، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ)(الضحى:5)، (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ)(غافر: 60)، (رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)(مريم:9).
وتبقى سورة الشرح (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)(الشرح:1-6)، بجلالها وجمالها من أهم ما يبعث الأمل في النفوس؛ ذلك لأنه لن يغلب عسر يسرين، فالعسر المذكور في الآيتين: هو في الحقيقة واحد؛ لأنه جاء معرفة، واليسر المذكور في الآيتين: هو يسران، وليس واحدًا؛ لأنه جاء نكرة(3) ، كما قال العلماء.
إن العيش في رحاب الآيات القرآنية الجليلة الباعثة للأمل والتفاؤل -وغيرها- كفيل بتكوين إنسان هادئ هادي، صالح مصلح، تقي نقي، آمن مستقر، ومستمر في أداء وظيفيته في إعمار الكون بانتظام.
النبي والتفاؤل:
النبي عليه الصلاة والسلام هو منبع الأمل ومعلمه، ومنه تنبثق أنهار التفاؤل… وكان يحبُ الفألَ الحسنَ.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يُعجبُهُ الفَألُ الحسَنُ، ويَكْرَهُ الطِّيرةَ)(4)، قال الحافظ ابن حجر: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفألُ الحسن؛ لأن التشاؤمَ سوءُ ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤلَ حسنُ ظن به جل وعلا، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله على كل حال. وقد كان عليه الصلاة والسلام يتفاءل في المشكلات، والأزمات، والملمات، وفي شأنه كله.
ولا يكون ذلك إلا بالاعتماد على الله- سبحانه وتعالى- والثقة فيه جل وعلا، ثم الثقة في النفس.
لذلك كان دائما يعلم أصحابه والمسلمين التوكل على الله، والاعتماد عليه، والأخذ بالأسباب وترك الأمور لله، والتأمل فيه…


التفاؤل وحسن الظن بالله:
التفاؤل برهان ساطع على حسن الظن بالله رب العالمين… يُسعد النفس والقلب، ويوحد قوة الروح، وقوة الجسد، ويجعل حياة الإنسان خالية من الأسى، والنكد، والتشاؤم… ‫إن الاستغفارَ والتفاؤلَ حلٌ للمشكلات والهموم، والأحزان‬‬‬، يقول تعالى (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ)‬‬‬‬(التوبة:40)، ومن هنا نتلمس أهمية الذكر في حياتنا؛ لذلك علينا بكثرة الاستغفار… استغفروا الله ننجو جميعا‬ (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(الأنفال: 33)‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أخي القارئ الكريم: عندما تقرأ القرآن -بتدبر- تجد أن القرآن كله خير وبركة، تجد أنه يفتح لك أبواب الأمل. فكل من أصيب بمصيبة عليه بقراءة سورة يوسف؛ حتى ينفتح له باب الأمل.
إننا أيضا عندما نتأمل معاني قوله تعالى: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(البقرة: 156)‬، (إِنَّا لِلّهِ) يعني أنا مِلك لله تعالى يتصرف بي كما يريد وأنا لا أدبر أمري، بل أمري مدبر مِن قِبل الله، وهذا الذي وقع عليَّ ما وقع باختياري، وإنما هو بقدر الله عليّ، ولله أن يفعل بي وبسائر الخلق ما شاء، نحن ملك لله، نحن لا يحق لنا أن نعترض على مراد الله (وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) فنحن جميعًا سنرجع إلى الله، فهذا الحبيب الذي مات بالأمس، وذلك الشيء المهم الذي ضاع منك، وذلك المال الذي سُرق منك، كل ذلك راجع إلى الله، وأنت سترجع إليه سبحانه، إذن هذه الدنيا ممر، والجميع سيرجع إلى الله فلماذا إذًا تتألم؟!(5).


أهمية التفاؤل… ومخاطر التشاؤم:
الشخص المتفائل يبحث دائما عن الجديد والتجديد، بينما التشاؤم طاقة سلبية رهيبة، تجعل الشخص رهينة للوساوس والأوهام، وهذه الطاقة قادرة على إعاقة الأمل وإماتته، وغرس اليأس والإحباط في النفوس. والتشاؤم من أكثر الأشياء التي يمكن أن تهدم الفرد، والأسرة، والمجتمع، وتهزم الإنسان في أي معركة؛ لذلك فإن رفع الروح المعنوية كفيل لمواجهة الهدم بالبناء، والهزيمة بالنصر، والخمول بالعمل، واليأس بالأمل.
والتفاؤل في حياة الإنسان لا يقل أهمية عن الطعام والشراب، فإذا كان الطعام والغذاء وقود الجسم؛ فإن الأمل والتفاؤل وقود النفس، والقلب، والعقل، والروح، والوجدان، ومن ثم؛ فلا حياة سليمة، ولا تجديد، ولا إبداع من دون أمل، وعمل، ورغبة في الحياة.


من الكلمات النورانية الباعثة على الأمل والتفاؤل:
من الكلمات القرآنية التي تزرع الأمل والتفاؤل:

  • كلمة “عسى”، وكلمة “لعل”: فهما يبعثان في النفس التفاؤلَ والاطمئنان، وتزرعان فيها اﻷمل في حياة أفضل، يقول تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ)(المائدة: 52)، وقوله: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)(الطلاق: 1).
  • ومن الكلمات القرآنية التي تبعث على التفاؤل واﻷمل، قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ)(آل عمران: 26)، فهذه خمس صفات، ‏ومن يملك هذه الصفات الكاملة، فهو جديرٌ بأن ندعوه، ونخاطبه بقولنا: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ)(آل عمران: 26)، ويا لها من عبارة غاية في البشارة والتفاؤل، وتحقيق المطلوب؛ لأن مَن بيده الخيرُ هو على كل شيء قدير.
  • ومنها قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا، وَصَابِرُوا، وَرَابِطُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ)(آل عمران: 200)، هذه أربعُ صفات، إذا اتَّصف بها العبد أفلح، ألم يَقُل الله تعالى بعدها: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(آل عمران: 200).
  • ومنها قوله تعالى: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(آل عمران: 134)، ما رأيت صفةً يتجمَّل بها اﻹنسان أجمل من العفو عن أخطاء الناس في حقِّه(6)، وأكرم بها من صفة لا يتحلى بها إلا الكبار!!، ومن يتَّصف بها يكون من أحباب الله سبحانه وتعالى.
  • ومنها ما يريح نفوس المكلومين، المجروحين، المظلومين، يقول تعالى: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا)(النبأ: 17)، ويا لها من رسالة غاية في البلاغة والإعجاز، فكلمة الفصل رسالة قوية للظالمين، ولمن يرتعون في مهاوي الظلم، وبراثن الكذب، والنفاق، والضلال، والإضلال، وفي الوقت ذاته رسالة تحمل في طياتها بلسمًا، وترياقًا وعلاجًا نهائيًّا لجراح كلِّ مظلوم، وكل مكلوم، وكل مجروح!
    وهناك كثير من الكلمات النورانية الأخرى تشع نورا وتفاؤلا، منها: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(يوسف:92)، (لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ)(الواقعة: 50)، (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)(الذارايات:22)، (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)(هود:6)، (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)(القيامة: 36)، ومنها ما قاله الصالحون مثل: (فوّض الأمر إلينا تجدنا نحن أولى بك منك)، (كن مع الله)، (لا رازق غيرك سبحانك)، (ما شاء الله كان)، (سبحانك ربي سبحانك، سبحانك ما أعظم شانك)…
    وفقنا الله للتفاؤل، ووفق التفاؤل للعيش معنا في قلوبنا وفي حياتنا… وبالله تعالى التوفيق

المراجع:
( 1) من قصيدة للشاعر الكبير/ إيليا أبو ماضى، الذى توفى 23 نوفمبر 1957م.
(2) د/ محمد بن عبد العزيز الخضيري: التفاؤل في القرآن الكريم، ملتقى أهل التفسير بتصرف،
https://al-maktaba.org/book/31871/39671#p1
(3) يقول د/ محمد الخضيري: الأمر كما لو قلت لأحد: جاء رجل، ودخل رجل، وجلس رجل، وسلمت على رجل، كم هؤلاء؟ أربعة. لكن لما أقول: جاء الرجل، ودخل الرجل، وسلّمت على الرجل؛ فهم واحد؛لأنه جاء معرفة والأول نكرة.
(4) صحيح ابن ماجة.
(5)التفاؤل في القرآن الكريم، (مرجع سابق)
(6) د/ عبد السميع الأنيس: من كلمات التفاؤل واﻷمل في القرآن الكريم، شبكة الألوكة، 24-11-1437هـ (بتصرف).

زر الذهاب إلى الأعلى