الانتماء للوطن قيمة ومقتضيات ( 2 ـ 5)

أ.د. إبراهيم صلاح الهدهد

المستشار العلمى لمنظمة خريجى الأزهر، رئيس جامعة الأزهر الأسبق

والحق- سبحانه- قدّم الهجرة على بذل المال والنفس، وجعلها أدل العلامات على الإيمان، وذلك  ليكشف عن فضل الأوطان ومنزلتها فى أكثر من آية، من ذلك قوله تعالى: «إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا… » (الأنفال: 72).

بل جعل الله حب الأوطان علامة الإيمان الحق بكل صراحة ووضوح، قال  تعالى: « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» (الأنفال: 74).

ترك الأوطان فى أول الإسلام كان لعلة فلما زالت العلة زال المعلول:

كان ترك الوطن (مكة) فى أول الإسلام بسبب ما ناله المسلمون الأوائل من الأذى، وعدم التمكن من إقامة الشعائر، وحينما زال الأذى وقوى المسلمون، وفتح الله مكة لنبيه، صلى الله عليه وسلم، أخبرنا، صلى الله عليه وسلم، بعدم الهجرة بعد الفتح، وفى فقه الحديث فهم مغلوط يحسن بيان فهمه على الوجه الصحيح:

الحديث رواه الشيخان بسنديهما عن ابن عباس، رضى الله عنهما، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا»، الهجرة فى أصل اللغة الترك، ثم غلبت على الخروج من أرض إلى أرض، وقد شاع إطلاقها على هجرتى الحبشة، وهجرة المدينة، أما الهجرة فى الشرع فهى ترك ما نهى الله عنه، والهجرة بمعنى ترك الوطن ارتفع حكمها، وبقى بدلها وهو الجهاد والنية، ولقد كانت الهجرة قبل الفتح فرضًا على من أسلم بمكة، ذلك ليأمن على دينه، ويسلم من أذى الكفار، وقد أعظم الله شأنها، ونعى على من لم يقم بها فى قوله: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا» (الأنفال: 72) وظل الأمر على هذا الحال حتى فُتحت مكة، فنسخ فرض الهجرة، بل إن أهل العلم بينوا أن لا حرج منذ الفتح إلى قيام الساعة على من أقام فى دار الكفر مسلمًا قادرًا على إقامة شعائر دينه، وقد بيّن الماوردى- رحمه الله- فضل إقامة المسلم فى بلاد الكفر فقال: «إن إقامة هذا أفضل من رحلته، إذ يرجى من وراء إقامته دخول غيره فى دين الله، وهو قول حق تؤيده دلائل الشريعة، لكن لمن نوى بإقامته إظهار الحق والدعوة إليه، وكان أهلاً لذلك».. وقصارى القول: «إنه لا تجب عليه الهجرة ما لم يُفتن» وهو ما قاله ابن حجر فى شرح الحديث؛ فقد ذكر: أن هذا فيمن خشى الفتنة على دينه، وهو عين ما رواه البخارى فى صحيحه فى المغازى: عن أم المؤمنين عائشة، رضى الله عنها، وقد سألها عبيد بن عمير الليثى عن الهجرة فقالت: «إنما كانت الهجرة قبل فتح مكة والنبى، صلى الله عليه وسلم، بالمدينة، أما اليوم فلا هجرة، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى، وإلى رسوله، صلى الله عليه وسلم، مخافة أن يفتن عليه، أما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث يشاء، ولكن جهاد ونية»، ولقد عرَّف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المهاجر الحق فى الحديث الذى رواه البحارى فى صحيحه بسنده قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، هذا فهم سلفنا الصالح للحديث، وما أجل قول القاضى عياض: أجمعت الأمة على تحريم ترك المهاجر هجرته ورجوعه إلى وطنه، وفَرْضُ ذلك عليه إنما كان فى زمن النبى، صلى الله عليه وسلم،  لنصرته أو ليكون معه أو لأن ذلك إنما كان قبل فتح مكة، فلما كان الفتح، وأظهر الله الإسلام على الدين كله، وأذل الكفر، وأعز المسلمين سقط فرض الهجرة فقال النبى، صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» وقال: «مضت الهجرة لأهلها»، أى الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم قبل فتح مكة لمواساة النبى، صلى الله عليه وسلم،  ومؤازرته، ونصرة دينه، وضبط شريعته.

الانحراف بالنص عن مراده الحق:

من يدعى العلم بالدين انحرف بالنص عن مراده، ولم يدرك المعنى اللغوى القاطع الذى جاء فى النص الشريف، بل إنهم ذهبوا إلى وجوب الهجرة من دار الشرك، مستدلين بالآيات التى تحث على الهجرة قبل زوال حكمها غفلة عن السياق المقالى والمقامى، ثم استندوا إلى مرويات ضعفها أهل العلم من مثل قول النبى، صلى الله عليه وسلم،: «أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين»، وقوله: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»، والحديث الأول رواه أبوداود والترمذى والنسائى، وهو محمول على ما كان قبل الفتح، أو على من يفتن فى دينه، ويظل باقيًا، والحديث الثانى رواه أحمد فى مسنده، وأبوداود والنسائى، وهو حديث ضعيف، عند أهل الحديث لأن فى سنده أبا هند البجلى الذى جهله أهل الحديث.

زر الذهاب إلى الأعلى