المتطرفون.. ومفهوم هجرة المجتمعات لتكفير بلاد المسلمين


بقلم د. عبداللطيف سيد حساني / موجه عام الوعظ والفتوى ببني سويف_ عضو المنظمة العالمية لخريجي الأزهر

الحمد لله رب العالمين وأشهد الا اله الا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، أما بعد :
لقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم المخطئ إلى التوبة وحببها إليه ، ولم يثبت أنه دعا إلى هجْر المجتمع لما فيه من بعض الأخطاء ، والناظر إلى البلاد الإسلامية عامة يرى أنه لا يوجد ما يدعو إلى الهجرة منها لتكوين مجتمع إسلامي جديد فهي ليست مجتمعات كافرة وليست دار كفر وليست مجتمعات منحلة الخلق معوجة السلوك إلى الحد الذى يخشى المسلم فيها على دينه وخلقه .
لكن الجماعات المتشددة تستدل ببعض الآيات الخاصة بالهجرة من مكة إلى المدينة في حين أنه وقتها كانت الهجرة واجبة لأسباب غير موجودة في مجتمعات المسلمين اليوم.

  • ظهرت أفكار هذه الأيام متطرفة وجماعات متشددة، تلصق نفسها بالإسلام وهو منها برئ، وتشوه بممارساتها صورته، فكان على المؤسسات الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف الرد على تلك الحجج التي يسوقها أرباب الفكر المتطرف، ويلصقونها بالدين.
  • وهناك نداءات تظهر في وسائل التواصل الاجتماعي تدعو الشباب إلى الهجرة من مجتمعاتهم وأوطانهم، وتدَّعى أنَّ المجتمعات الإسلامية الآن مجتمعات جاهلية وكافرة ومِعْوَجَّة السلوك إلى الحد الذي يخشى المسلم فيه على دينه وخلقه، ومن هذا المنطلق الفاسد يرى المضللون أنَّ الهجرة واجبة كوجوب الهجرة من مكة قبل الفتح الذى صارت به دار إسلام، وهذا مفهوم خاطئ للهجرة ويتنافى مع وسطية الإٍسلام، ويسر تشريعاته، ودقة أحكامه، وسلامتها من الجمود، واتسامها بالمرونة والسعة، وتآلف كلياتها مع جزئياتها.
  • والعجيب أنهم يستدلون على هجر المجتمع بالآيات الواردة في الهجرة أيام النبي  في بداية الإسلام حين كان المؤمنون قلة، والكفار عُبَّاد الاصنام كثرة، وكان من المفروض آنذاك أن تهاجر القلة المؤمنة لضعفها من بلاد الكفار المتسلطين عليهم بالإيذاء والتجويع والترهيب إلى بلاد آمنة تؤويهم، وتحترم دينهم الجديد وما يأمر به من شعائر وشرائع، وهؤلاء الخارجون على شريعة الإسلام يحاولون أن يطبقون الآيات التي وردت في هجرة المسلمين الأوائل الذين كانوا يعيشون في مجتمعات كافرة تحتقرهم وتذلهم، على المواطنين اليوم في مجتمعاتهم المسلمة التي تحترمهم، وتحترم الإسلام شعائر وأحكامًا، ويكفى أنَّ دستور المجتمعات المسلمة اليوم ينص أول ما ينص على أنَّ الإٍسلام هو دين الدولة، وأنَّ الشريعة الإٍسلامية هي مصدر التشريع لأحكامها وتشريعاتها المنظمة لشؤون حياتها.
    والآيات التي يستدلون بها خطأ وزورًا ومنها قول الله تعالى: « والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا»، وقوله تعالى: «والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم»، وقوله تعالى: «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا ».
    وللأسف هم يفهمون الآيات الواردة في الهجرة على غير وجهها الصحيح، فقد اتفق العلماء على أن حكم هذه الآيات المتعلقة بالهجرة قد انقضى يوم فتح مكة ، لأن الهجرة كانت واجبة لمفارقة أهل الشرك، فعندما صارت مكة دار إسلام سارت غيرها، ويؤيده حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية»، فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلا المهاجرين يحرم عليهم الرجوع لمكة، وأحكام وجوب خروج المؤمن من بلده الذى يعيش فيه نجدها ثلاثة أحوال :
    الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يُفتن فيه في إيمانه فيُرغم على الكفر، وهو يستطيع الخروج.
    الثانية: أن يكون ببلد الكفر عرضة للإصابة بأسر أو قتل أو مصادرة مال وعرض نفسه للضر .
    الثالثة: أن يكون البلد الذي يكثر فيه المنكر والبدع، وتجرى فيه الأحكام على خلاف صريح الإسلام، ولا يستطيع تغيير المنكر إلاّ بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلاً
    من هذا العرض يتبين أن استدلال الجماعات المتشددة، وتمسكهم بهذه الآيات يدل على سوء فهمهم وفساد عقولهم؛ لأنَّ الآيات الخاصة بالهجرة كانت للرسول صلى الله عليه وسلم والمجتمع المسلم، ليشترك المهاجرون من مكة معهم في الجهاد في المدينة المنورة، ويتخلصوا من فتنة الكفار لهم، والضغط عليهم، وإجبارهم على الارتداد عن دينهم، فكانت الهجرة يومئذٍ واجبة .
    و هؤلاء مخطئون في حكمهم على المجتمع بالكفر؛ لان الحكم يتوقف على توفر الأمن للناس على دينهم وأنفسهم، فلو عاش المسلم في بلد ليس له دين، أو دينه غير دين الإسلام، ومارس شعائر دينه بحرية فهو في دار إسلام، ولا تجب عليه الهجرة منه.
    إنّ الهجرة كانت واجبة على المسلمين من مكة قبل فتحها؛ لتعرضهم فيها للفتنة، فكانوا لا يأمنون على دينهم، فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، وهى بلد لا يدين أهلها بالإسلام بل كانت المسيحية دينها الرسمي، وكان ملكها مسيحيًا، لكنّ المسلمين في هذا البلد المسيحي أمِنُوا على أنفسهم ودينهم.
    وكيف يكون بلد يُرفع فيه الأذان، وتُقام فيه الصلوات، وتُمارس فيه شعائر الدين في أمن واطمئنان ! كيف يكون دار كفر يُدعى إلى الهجرة منه، ويُحارب القائمون على الأمر فيه !
    وهل تعرَّض أحد من هؤلاء للفتنة ليغير عقيدته ؟ وهل منع أحد من الصلاة أو الصيام أو الحج أو ممارسة حقوقه المشروعة في العمل، والتعليم، وتولى الوظائف ؟ وكيف يُحكم على بلد بأنَّه غير إسلامي وهو يقر ويعترف، ويرضى أن يكون الإسلام دينه الرسمي؟
    إن ذلك بمثابة الشهادتين «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله»، فهل بعد الإقرار الرسمي كتابة وقولاً نحكم على المجتمع بالكفر؟
    إن آيات الهجرة كانت خاصة بالهجرة من مكة إلى المدينة، حيث يوجد الرسول  والمؤمنون، ليشترك المهاجرون معهم في الجهاد، ويتعاونوا على خير المسلمين، ويتخلصوا من فتنة الكفار لهم، والضغط عليهم ليرتدوا، فكانت الهجرة واجبة، ولما فتحت مكة سنة ثمان من الهجرة صارت دار إسلام ولم تفرض الهجرة منها، وفى ذلك يقول النبي  : «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا ».
    ومن يدعون إلى الهجرة اليوم أين يذهبون؟ إن كانوا سيهاجرون إلى بلد آخر، فليس هذا البلد بأحسن حالاً ، فنظام الحكم يكاد يكون متشابهًا، وسلوك الناس لا يختلف كثيرًا ، وكل إنسان في بلد يحسب أن البلد الآخر أحسن، فإذا هاجر إليها صدم بالواقع فلا يوجد مجتمع نظيف مائة في المائة، وإن كانوا سيهاجرون للصحراء فمن الذى يصلح الفاسد ويغير المنكر في بلادنا ؟
    ثم إن الناظر إلى البلاد الإسلامية عامة يرى أنه لا يوجد ما يدعو إلى الهجرة منها لتكوين مجتمع إسلامي جديد، فهي : أولاً: ليست مجتمعات كافرة، وليست دار كفر كما بينا ذلك بوضوح،
    ثانيًا: ليست مجتمعات منحلة الخلق معوجة السلوك إلى الحد الذى يخشى المسلم فيه على دينه وخلقه، الذى يخشى ذلك هو ضعيف الإيمان وضعيف الثقة بشخصيته.
    واذا كانت هناك بعض السلبيات في المجتمعات الإسلامية، فأي مجتمع لا يخلو من أخطاء، والمجتمع المثالي مجتمع الرسول  ، وصحابته  كانت فيه بعض الأخطاء الفردية، ولم يثبت أنّ الرسول  دعا إلى هجر المجتمع لما فيه من بعض الأخطاء، وإنَّما دعا المخطئ إلى التوبة وحببها إليه، بل ثبت عنه أنَّه قال: « والذى نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم ».
    ومن هنا تعلم أنه لا يجوز هجر المجتمع مع ما فيه من أخطاء وسلبيات، بل الواجب حينئذٍ: أن يقوم كل شخصٍ في المجتمع بواجبه الشرعي نحو تصحيح الأخطاء، كلّ بقدر استطاعته.
    أمّا هجر المجتمع لكثرت المنكرات، فهو مشاركة في إفساده، وإهلاكه، فقال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا». حفظ الله مصر وأهلها ورد الله الجميع الي وسطية وفهم الإسلام رداً جميلاً
زر الذهاب إلى الأعلى