شهر شعبان موسم عرض الأعمال علي الله

بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى _ مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف

معلوم أن العبادة التي يتقرب بها العبد إلى الله لابد أن يتوفر لصحتها وقبولها شرطان أولهما :

الإخلاص لله تعالى .

وثانيهما :

متابعة النبي ﷺ

قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى :

{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

قال : ” أخلصه وأصوبه ” .

[الملك: 2]

وقال :

” إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل ، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ، حتى يكون خالصا صوابا ، والخالص أن يكون لله .

والصواب : أن يكون على السنة .

?هدي النبي ﷺ الإكثار من الصيام في شهر شعبان

وهذا مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية وطائفة من الحنابلة وللبيان نقول :

قد ورد أن النبي ﷺ كان يصوم شعبان كله ، يدل على ذلك .

ما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ :

مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلا أَنَّهُ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ برمضان ، ولفظ أبي داود :

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلا شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ .

صححه الألباني في صحيح أبي داود

فظاهر هذا الحديث أن النبي ﷺ كان يصوم شهر شعبان كله .
لكن ورد أن النبي ﷺ كان يصوم شعبان إلا قليلاً .

فقد روى مسلم عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ :

سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ :

كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلا قَلِيلا .

فاختلف العلماء في الجمع بين هذين الحديثين :

فذهب بعضهم إلى أن هذا كان باختلاف الأوقات ، ففي بعض السنين صام النبي ﷺ شعبان كاملاً ، وفي بعضها صامه النبي ﷺ إلا قليلاً .

قال الطِّيبِيُّ :

“يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصُوم شَعْبَان كُلّه تَارَة وَيَصُوم مُعْظَمَهُ أُخْرَى لِئَلا يُتَوَهَّم أَنَّهُ وَاجِب كُلّه كَرَمَضَانَ” .

فتح الباري (251/4)

وذهب آخرون :

إلى أن النبي ﷺ لم يكن يكمل صيام شهر إلا رمضان ، وحملوا حديث أم سلمة على أن المراد أنه صام شعبان إلا قليلاً .

قالوا : وهذا جائز في اللغة إذا صام الرجل أكثر الشهر أن يقال : صام الشهر كله .

قال الحافظ :

“إن حديث عائشة رضي الله عنها يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي حَدِيث أُمّ سَلَمَة :

أَنَّهُ كَانَ لا يَصُوم مِنْ السَّنَة شَهْرًا تَامًّا إِلا شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَان .

أَيْ : كَانَ يَصُوم مُعْظَمَهُ .

وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ اِبْن الْمُبَارَك أَنَّهُ قَالَ :

جَائِزٌ فِي كَلام الْعَرَب إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يَقُولَ صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ …

وقَالَ النَوَوي رحمه الله :

وقولُ عائشة رضي الله عنها :

كان يصومُ شعبانَ كُلَّهُ ، كان يصومهُ إلا قليلاً .

الثاني تفسيرٌ للأولِ وبيانٌ أنَّ قولَها كُلَّهُ أي : غالبَهُ .

[شرح مسلم (8/37) ]

?الحكمة من إكثاره ﷺ الصيام في شعبان :

وَحِكْمَةُ إِكْثَارِهِ مِنَ الصِّيَامِ فِي شَعْبَان بَيَّنَهَا النَّبِيُ ﷺ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ :

قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ قَالَ :

«ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»

[رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ واللفظ له .

وَهَذَا الْعَرْضُ لِلْأَعْمَالِ هُوَ “الْعَرْضُ الحولي” ؛ فَإِنَّ عَرْضَ الْأَعْمَالِ “يَوْمِي”ٌّ و”َأُسْبُوعِيٌّ” وَ”حَوْلِيٌّ” .

?فالعَرض اليَومِي :

يُعْرَضُ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ ، وَعَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ كما في حديث أبي موسى رضي الله عنه قال :

قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع فقال :

«إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ، وَلَا يَْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ» .

رواه أحمد واللفظ له ومسلم وابن ماجه

?والعَرضُ الْأُسْبُوعِيُّ :

يُعْرَضُ عَلَيْهِ سُبحَانَهُ يَوْمَيِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ .

وَلِذَلِكَ نَدَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى صِيَامِهِمَا

لما ثبت من حديث أسامة بن زيد قال يا رسولَ اللَّهِ !
إنَّكَ تَصومُ حتَّى لا تَكادَ تُفطرُ ، وتُفطرُ حتَّى لا تَكادَ أن تَصومَ !
إلَّا يَومَينِ إن دَخلا في صيامِكَ وإلَّا صُمتَهُما قالَ : أيُّ يومينِ ؟

قُلتُ : يومَ الاثنينِ ويومَ الخَميسِ .
قالَ : ذانِكَ يومانِ تُعرَضُ فيهما الأَعمالُ على ربِّ العالمينَ ، فأحبُّ أن يُعرَضَ عمَلي وأَنا صائمٌ” .

صحيح النسائي

?وَالعَرضُ الْحَوْلِيُّ :

يُعْرَض عَلَيه سُبحَانَهُ فِي شَعْبَانَ ؛ فَاسْتُحِبَّ صِيَامُ أَكْثَرِهِ ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَصُومُ أَكْثَرَهُ كَمَا سَبَق بَيَانُه في الحديث .

?وجه الصيام في شعبان :

قال ابن رجب في بيان وجه الصيام في شعبان :

“وفيه معانٍ ، وقد ذكر منها النبي ﷺ إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام :

الشهر الحرام وشهر الصيام ، اشتغل الناس بهما عنه ، فصار مغفولاً عنه ، وكثير من الناس يظنُّ أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام وليس كذلك ” .

لطائف المعارف

قال :

وفي قوله :
يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقاً ، أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه ويُفَوِّتُون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم .

لطائف المعارف

?وذكروا لذلك معنى آخر وهو التمرين لصيام رمضان قال ابن رجب :

وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر ، وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذّته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط .

لطائف المعارف

?حكم الصوم بعد النصف من شعبان

روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه :

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلا تَصُومُوا

صححه الألباني في صحيح الترمذي

فهذا الحديث يدل على النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان ، غير أنه قد ورد ما يدل على جواز الصيام . فمن ذلك :

ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ :

لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إِلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ .

فهذا يدل على أن الصيام بعد نصف شعبان جائز لمن كانت له عادة بالصيام ، كرجل اعتاد صوم يوم الاثنين والخميس ، أو كان يصوم يوماً ويفطر يوماً . . ونحو ذلك .

?قال النووي رحمه الله في رياض الصالحين صفحة 412) :

باب النهي عن تقدم رمضان بصومٍ بعد نصف شعبان إلا لمن وصله بما قبله أو وافق عادة له بأن كان عادته صوم الاثنين والخميس .

أما عن حديث النهي عن الصيام بعد نصف شعبان فهو :

هو حديث صحيح .

والمراد به النهي عن ابتداء الصوم بعد النصف .

أما من صام أكثر الشهر أو الشهر كله فقد أصاب السنة .

مجموع الفتاوى

والنهي في الحديث ليس للتحريم وإنما هو للكراهة فقط ، كما أخذ بذلك بعض أهل العلم رحمهم الله ، إلا من له عادة بصوم ، فإنه يصوم ولو بعد نصف شعبان .

زر الذهاب إلى الأعلى