قمر الدعبوسي يكتب عن فن التغافل

التغافل فن من فنون الحياة التي كنت أتمنى أن تعلِّمه المدارس كمهارة حياتية مفيدة للفرد والأسرة والمجتمع؛ فالمتغافل إنسان مرتاح ومريح لمن حوله، يرى الخطأ فيحسبه بسرعة تفوق سرعة الحاسوب في عقله ليتوصَّل لنتيجة مفادها أن المعادلة لا تسوَّى كل مرة، وأن من الحكمة تركَ هذه الزلة أو تلك تمر مرور الكرام، وكأنه لم يرَ شيئًا!
ولكن هذا التغافل فنٌّ لا يتقنه كثيرون؛ فهو فنٌّ صعبٌ ومعقَّدٌ يحتاج إلى ضبط النفس وحساب العواقب، ولذا فهو ليس بمهارة سهلة بل تحتاج إلى تدريب وتطوير لتصل للشكل المطلوب، فبعض الناس يولدون بمزاج متأنٍّ، فيكون التجاهل موافقًا لطبيعتهم. أمَّا أصحاب الأمزجة النارية فهم في حاجة ماسَّة لبرامج مكثَّفة في فنِّ التجاهل.
والتجاهل فنٌّ يقوم على حساب دقيق كما قلت؛ فهو في ظاهره يمكن أن يبدو غباء أو غفلة، ولكنه في الحقيقة حكمة وصبر وذكاء وتخطيط، فليست كل هفوة تحتاج إلى تدخل، وليست كل زلَّة -أيضًا- يمكن التغاضي عنها، ولذا فإن التغافل -كما قلت- يتوجَّب أن يضاف لبرنامج تدريبي يسمى: «مهارات الحياة»؛ ندرِّسه لطلابنا في المدارس مثله مثل إعداد الطعام أو الخياطة وغيرها من الأعمال التي يحتاجها الإنسان كمهارات ليكون مستقلًّا وعمليًّا.
والتغافل من فعل الكرام، ومن طرائف قصصه: قصة الزاهد الورع حاتم بن عنوان( )، الذي جاءته امرأة تسأله عن مسألة، فخرج منها صوت فخجلت، فقال لها: «ارفعي صوتك»، فأوهمها أنه لم يسمع السؤال ولا الصوت، فسرَّت المرأة بذلك، ومن يومها لقب بحاتم الأصم. وروى عـن صلاح الدين الأيوبي أنه كان كثير التغافل عن ذنوب أصحابه؛ يسمع من أحدهم مـا يكره، ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه، وكان جالسا مرة وعنده جماعة، فرمى بعض الجند بعضًا بنعـل فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين، ووقعت بقربه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه؛ ليتغافل عنها، ولعله لهذا استطاع أن يكون قائدًا فذًّا ألَّف القلوب حوله؛ لمحاربة الأعداء والنصر عليهم.
وإذا كان التغافل مطلوبًا بين الناس فإنه مطلوب بشكل أكبر بين المتحابين والأصدقاء، فإذا دقَّق أحدهما في تصرفات الآخر كبيرها وصغيرها نفر منه، ولكن عليه أن يوطِّن نفسه على تقبل الطرف الآخر، والتغاضي عن ما لا يعجبه فيه من صفات أو طبائع؛ ليعيش عيشة هنية. ومـن طرائف ما قرأت أن أحد القضـاة إذا جـاءه رجـل يشتكي زوجته ويريـد طلاقها فيعطيـه ورقـة وقلمًا ويطلب منه أن يكتب محاسنها، ثم يطلب منه أن يكتب مساوئها، وفي الغالب فإن قائمة المحاسن تطول وقائمة المساوئ تقصر؛ فيقول له: «ألا تتغاضى عن هذه المساوئ في مقابل هذه المحاسن؟!»، ويفعل الشيء نفسه مع الزوجة الغاضبة التي تأتيه وتود خلع زوجها، فيا له من طبيب للقلوب والأنفس قبل أن يكون قاضيًا عادلًا!
أمَّا في تربية الأولاد فالتغافل يجب أن يكون سيد الموقف؛ حتى لا يكتسب الأولاد عادات العناد والكذب، فهناك فرق بين التغافل والغفلة؛ فالتغافل هو التغاضي عن بعض ما يصدر من الأولاد من عبث أو طيش رغم علم المربي بها، في حين أن الغفلة هي الانشغال عنهم وعدم توجيههم، وعدم معرفة ما يقومون به من أخطاء وأفعال مشينة مخلة بالأدب.
فالأب والأم المتغافلان عن الهفوات الصغيرة يكسبان أبناءهما على المدى الطويل أكثر من هؤلاء الذين لا يتركون شاردة ولا واردة إلا ويعاقبون عليها. وهذا ينطبق على العلاقات العائلية والإنسانية كافة. فإن أردت أن تكون ناجحًا، يجب أن تتعلَّم أنه ليس لديك وقت لمثل هذه التفاهات، فقط ركز طاقتك ووقتك في ما يفيدك وليس ما يضايقك ويحزنك.
وعودًا إلى ما سبق وتلخيصًا لما تقدَّم؛ فالتغافل فنٌّ لا يتقنه إلا مَن أعطاه الله قدرة على التسامح، ونعني به هنا أن تتغافل عن سفاسف الأمور في ضوضاء هذه الحياة؛ فقد يصلح هذا الفنُّ مع أشخاص لهم مكانة عندك أو بينك وبينهم صلة رحم، وأنت تريد إعطاءهم فرصة أخرى؛ فتتغافل عن زلاتهم وتغفرها لهم. وقد يكون التغافل –أيضًا- عن مواقف وأمور في حياتك غضضت الطرف فيها ليس لضعف منك؛ وإنما حكَّمت عقلك واستفدت منها لتقف من جديد وبقوة، وعليك أيها القارئ الكريم أن تلحظ أن هناك فرقًا كبيرًا بين التغافل والتجاهل؛ فالأول يعني أنك تعلم الخطأ وتغفره لمنح غيرك فرصة، أمَّا الثاني فيعني أنك تعلم هذا الخطأ ورفضت واكتفيت بالبعد. وأخيرًا أدعك تتأمَّل قول الحقِّ تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت: 34). كما تأمَّل –أيضًا- تعريف الشافعي –رحمه الله- للكيِّس العاقل إذْ قال: هو «الفطن المتغافل»( ). دمتم متسامحين في الأزمات متغافلين عن الزلَّات.

زر الذهاب إلى الأعلى