إضاءات في المنهج الأزهري والشخصية الأزهرية

بقلم الأستاذ الدكتور / محمد عبد الفضيل القوصى ـ رحمه الله

وزير الأوقاف السابق ـ عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ـ نائب رئيس المنظمة العالمية لخريجى الأزهر

ربما يفهم البعض أن علوم الأزهر عبارة عن مجموعة من العلوم المكدسة دون نظام أو ترتيب ، وأن التعليم الأزهري يقوم علي حشو الأذهان بتلك العلوم القديمة بطريقة عشوائية اعتباطية .. هذا فهم شائع ينبغي تصحيحه .

فالمنهج الأزهري منظومة متماسكة تتكون من دوائر ثلاثة متتابعة : الدائرة الخاصة ، ثم الدائرة العامة ، ثم دائرة الضوابط والمواجهات الحاكمة للدائرتين السابقتين .

أما الدائرة الأولي ، وهي الدائرة الخاصة فهي تتعلق بالعلم الخاص المفرد كعلم الفقه مثلا ، وكذا غيره من العلوم .

وأما الدائرة الثانية ، فتتعلق بعلاقة هذا العلم الخاص بغيره من العلوم الإسلامية ورتبته ودرجته بين العلوم الأخرى ، وما هي العلوم التي ينبغي تعلمها قبل الإقدام عليه ، وما هي العلوم التي ينبغي تعلمها بعد أن يكتمل هذا العلم .

وأما الدائرة الثالثة ، فهي الضوابط والمواجهات التي تتعلق بالدائرتين السابقتين من حيث أخلاقياتها وآدابها وتوجيهها لمنفعة الناس ولحسن العلاقة مع الله تعالي .

في الدائرة الأولي : اسمحوا لي بأن ألقي علي مسامعكم بيتين من الشعر التعليمي يحفظها الطالب الأزهري منذ صغره :

إنَّ مباديْ كلِّ فنٍّ عشرة *** الحدُّ والموضوع ثمَّ الثَّمرة

وفضلُه ونِسبَةٌ والواضع *** والاسمُ الاستمدادُ حُكْم الشارع

مسائلٌ والبعض بالبعض اكتفى *** ومَن درى الجميعَ حاز الشرفا

فكل علم خاص يحتاج الطالب الأزهري – حين يخطو أول خطواته فيه – أن يعرف عشرة أمور تضمنها هذان البيتان وهي باختصار شديد : تعريفه ، موضوعه ، وثمرة البحث فيه ، وفضله ، ومن الذي ابتكره ، وما هي أسماؤه ، وما مصادره ومراجعه ، وما حكم الشرع في تعلمه ، وما هي رؤوس مسائله التي يبحث فيها ؟

ويطول بنا الحديث لو شرحنا كل واحد من هذه الأمور العشرة ، لكن الذي يهمنا هنا هو أن نقول أن هذه الأمور العشرة هي بمثابة الأهداف التي يضعها الطالب الأزهري نصب عينيه ، وهو يدرس أي علم من العلوم ، لكي يراجع نفسه في كل فترة عن مقدار ما أنجزه من هذه الأهداف ، وما الذي قصر فيه ، وما أسباب قصوره .

في الدائرة الثانية : يتم وضع هذا العلم الخاص – كعلم الفقه في مثالنا السابق – في مكانه من منظومة العلوم الإسلامية الشاملة ، ذلك أن هناك علوماً تسمي أحيانا (علوم الآلة) أو علوم (الوسائل) لابد من دراستها (قبل) البدء في دراسة علوم أخري تالية ، وهناك علوم تسمي أحيانا (علوم الغايات) أو (المقاصد) تلزم دراستها (بعد) دراية هذا العلم الخاص ، كما لا يسمح للطالب الأزهري أن يدرس (الموسوعات) في أي علم من تلك العلوم إلا بعد أن يدرس (المختصرات ) ولا يسمح له بدراسة الشروح والحواشي والهوامش إلا بعد دراسة المتون ، والتلخيصات لكي تكون خطواته العلمية متدرجة بحسب قدراته وإمكاناته العقلية والعمرية والنفسية .

يهمنا هنا في هذه الدائرة الثانية أن نذكر أن العقلية الأزهرية ابتكرت علمين دقيقين لتقنين النقاش بين جميع العلوم المشتركة في الدائرة الثانية : هما علم أدب البحث والمناظرة ، وعلم الخلاف ، ويضم هذان العلمان مجموعة متكاملة من الضوابط التي تقنن اختلاف الآراء ، حتى لا يتحول النقاش العلمي إلي “جدل عقيم” ، فالمقصود الأول في العقلية الأزهرية هو تحري الحقيقة المجردة ، والقبول بتعددية الآراء ووزنها جميعا بميزان الشرع والعقل .

ومن هذه “الضوابط” علي سبيل المثال : عدم التعجل في إصدار الأحكام ، وموضوعية النقاش ، والاتفاق منذ البدء علي محور الاختلاف ومحاور الاتفاق ، والتفرقة بين الأمور القطعية التي ينبغي الاتفاق عليها أولا ، وبين الأمور الظنية القابلة لتعدد الآراء

الدائرة الثالثة: دائرة الضوابط والمواجهات الحاكمة لكل من الدائرتين السابقتين، فالمنهج الأزهري يغرس في الذهنية الأزهرية : التواضع في طلب العلم ، واقتران العلم بالعمل ، والخشية من الله تعالي والخوف منه سواء في التعلم أو التعليم ، ويحذر المنهج الأزهري من أن يكون الهدف من طلب العلم : علو المنزلة بين الناس ، أو التكسب المادي ، كما يحذر من الجرأة علي دين الله تعالي ، ويأمر بأن يوظف العلم في خدمة الإنسانية ، وفي تيسير الحياة علي الناس ، وفي إصلاح حال الدنيا حضارةً وعمرانًا وتقدما .

هذا المنهج الأزهري المتميز بمكوناته الثلاثة السابقة يثمر ما ندعوه ( الشخصية الأزهرية ) التي يعرفها الناس جميعا ، والتي تتمثل فيها عدة خصائص :

أولاها: رحابة الأفق وقبول التعددية في الاتجاهات المختلفة في الموضوع الواحد ، والموضوعات المختلفة ، ومقابلة الرأي بالرأي ، والحجة بالحجة ، والبرهان بالبرهان .

ثانيها: التوسط بين الآراء المختلفة ومحاولة الجمع بينهما ، وهو ما يسمي في التراث الأزهري ( إزالة التعارض بين المختلفات) ، ففي مجال الفقه المقارن مثلاً – وكذلك في مجال أصول الفقه ، وكذلك في مجال العقائد وغيرها – تتمتع الشخصية الأزهرية بالقدرة علي المقارنات المتعمقة بين المذاهب والخروج منها بالوسط المذهبي – إذا استخدمنا التعبير الأرسطي – وهذه المقارنات تدرب الشخصية الأزهرية علي عدم التسليم برأي ما لم يكن قائماً علي أساس سليم ، حتى ولو صدر هذا الرأي من أستاذ يتمتع بشهرة واسعة في العلم الذي يدرسه ، فالمبدأ الذي يحفظه الأزهري منذ صغره ( لا تعرف الحق بالرجال ، ولكن اعرف الحق تعرف أهله) ، ولقد حفظ التراث الأزهري قدراً من المناقشات التي كانت تثور بين الآباء الأساتذة والأبناء التلامذة .

فالقاضي الجبائي المعتزلى وابنه أبو هاشم كانا يختلفان في كثير من المسائل لدرجة أن الابن ( أبا هاشم ) كان يوقظ أباه من النوم في منتصف الليل لكي يراجعه في درس الصباح ، ويختلف معه فيما تعلمه منه ، ويرفض ما يرفض ويقبل ما يقبل .

كذلك حفظ لنا التراث الأزهري أن الشيخ بهاء الدين السبكي كان يري رأيا في شرح أحاديث كتاب (الموطأ) للإمام مالك ، بينما رأي والده تقي الدين السبكي رأيا مخالفا لرأي أبيه ، فكتب كل منهما رسالة يعارض فيها رأي الأخر ..وهكذا .

وفي مجال العقائد نجد الطالب الأزهري منذ نعومة أظفاره يتعرف علي أراء الفلاسفة وأراء المعتزلة وأراء الماتريدية والأشاعرة والإمامية والزيدية ، ويناقشها في ضوء النقل والعقل مناقشة مستفيضة مطولة ، ربما تقضى فيها أعمار وتضعف أبصار!!

ثالثها: أن الشخصية الأزهرية بمكوناتها الثلاثة التي ذكرناها تنفر نفوراً شديداً من (التكفير ) ، بل كل ما يؤدي إلي التكفير ، ذلك أن الطالب الأزهري يدرك منذ نشأته أن أخطر الفتن التي تؤدي إلي فرقة المسلمين وانقسامهم وتفتت كلمتهم هو التكفير ، فالطالب الأزهري يدرس مثلاً كتاب (فيصل التفرقة) للإمام الغزالي ، وكتاب ( جوهرة التوحيد ) أو غيرها من الكتب الأزهرية فيجد في ذاته الباطنة خوفاً هائلاً ورعبا شديدًا من الاتهام ( بالتكفير ) دون مراجعة وبحث وتدقيق ، بل إنه يميل إلي التماس الأعذار لمن يختلف معه في الرأي حتى يبتعد النقاش عن هذه الدائرة المخيفة ( دائرة التكفير ) ، ولو أن هذه القيمة الأزهرية سادت بين المسلمين لتجنب العالم كله ويلات الإرهاب والعنف والتدمير .

زر الذهاب إلى الأعلى