تهنئة الإخوة المسيحيين في أعيادهم ومناسباتهم الاجتماعية
▪️بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى
▪️مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
بناء على المبادئ القرآنية ، والمقاصد الإسلامية ، ومراعاة مصلحة الإسلام من حيث دفع التهم الموجهة إليه بدون حق ، أرى أنه لا مانع من تهنئة الإخوة المسيحيين في أعيادهم ومناسباتهم الاجتماعية من خطبة وزواج ونجاح وغيره ، بل ينبغي ذلك ؛ لأنَّ تلك التهنئة من قبيل البر الذي أمرنا الله بالتخلق به مع أهل الكتاب المسالمين كما قال تعالى :
لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم
ومن قبيل القول الحسن للناس :
وقولوا للناس حسنا
ومن قبيل رد التحية بمثلها :
وإذا حييتم بتحية
ومقابلة الإحسان بإحسان :
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
إذ إنَّهم يهنئوننا في أعيادنا .
كما أنه من قبيل رد الجميل والعرفان به وهو مما أمرنا الإسلام به .
وفي عدم تهنئتهم تنكر للجميل ، وهو من الأخلاق الرذيلة التي نهانا الإسلام عنها .
كما أنَّ في تهنئتهم ما يدعم الوحدة الوطنية ، ويسد الباب أمام الفرقة والتعصب الديني الأعمى .
ومما يؤكد على أن من سمات الإسلام التعايش السلمي مع أهل الديانات الأخرى .
كما يقاس هذا الحكم جواز تهنئة المسيحيين في أعيادهم أو مناسباتهم الاجتماعية على جواز زيارة المرضى من أهل الكتاب ، وتشييع جنائزهم ؛ لاتفاقها في الهدف والغرض ، وهو الوفاء بحق الصحبة أو الجوار أو المجاملة الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد .
روى الإمام البخاري بسنده عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ .
قال ابن حجر :
واستدل بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : وَعُودُوا الْمَرِيضَ على مشروعية العيادة في كل مريض ؛ إذ إنَّ “أل” الجنسية من صيغ العموم فيتناول الحديث الأمر بزيارة جميع المرضى ، مسلمين كانوا أو كتابيين .
ولمراعاة روح التعايش الاجتماعي بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل الأخرى حرص الإسلام على الإبقاء على دائرة العلاقات الإنسانية والتعامل معهم التي يلتقي فيها كل الناس من المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب .
ومن مظاهر هذه العلاقة الإنسانية أن يقوم المسلم بزيارة كتابي إذا مرض ، وليس ذلك محظوراً ؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
فقد روى البخاري بسنده عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
أَنَّ غُلاَمًا لِيَهُودَ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ ….
وهذا الحديث دليل على جواز عيادة الذمي ؛ لذا قال الماوردي :
عيادة الذمي جائزة ، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة .
وترجم الإمام أبو داود في سننه في كتاب ” الجنائز ” لهذا الحديث بترجمة ” باب في عيادة الذمي ” ليشير بهذا الحديث إلى جواز عيادة الذمي إذا مرض .
روى الإمام أبو داود بسنده عَنْ أَنَسٍ أَنَّ غُلاَمًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ مَرِضَ ، فَأَتَاهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ…
كما يجوز الاشتراك في تشييع موتى أهل الكتاب المقيمين في المجتمع الإسلامي إلى مقابرهم من باب المجاملات الاجتماعية .
ويدل على ذلك ما رواه عبد الرزاق عن الشعبي قال :
ماتت أم الحارث بن أبي ربيعة وكانت نصرانية فشيعها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وكذا في رواية ابن أبي شيبة عَنْ عَامِر الشعبي .
وقالَ الإمام أَحْمَدُ بن حنبل رَحِمَهُ اللَّهُ فِي يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ مَاتَ ، وَلَهُ وَلَدٌ مُسْلِمٌ :
فَلْيَرْكَبْ دَابَّةً ، وَلْيَسِرْ أَمَامَ الْجِنَازَةِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْفِنَ رَجَعَ ، مِثْلُ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فهذه الآثار السابقة تبيح تشييع المسلم لجنازة أو لحق صحبة أو معاشرة ، أو معاملة دنيوية ، أو جوار ، أو مصاهرة أو غير ذلك .. بشرط أن لا يجر المسلم إلى مضرة ولا يؤثر على عقيدته .
والأمر لا يخلو عن مجرد مجاملات اجتماعية لأهل الوطن الواحد .
واستناداً إلى ما سبق ذكره وغيره أفتى العديد من علماء الإسلام بجواز تهنئة الإخوة المسيحيين في أعيادهم ومناسباتهم الاجتماعية .
ومن هؤلاء ابن تيمية ، والعلامة الشيخ الدكتور أحمد الشرباصي ، والشيخ علي الطنطاوي ، والدكتور مصطفى الزرقا ، والدكتور نصر فريد واصل مفتي الجمهورية الأسبق ، والدكتور علي جمعة مفتي جمهورية مصر السابق .
وإليك أقوالهم في هذه المسألة :جاء في الاختيارات الفقهية لابن تيمية :
وتجوز عيادة مرضى أهل الذمة ، وتهنئتهم وتعزيتهم .
والعجيب ممن يمجدون كلام ابن تيمية ، ثم يخالفونه في هذه الفتوى ؛ ترى لماذا ؟
وقال الدكتور أحمد الشرباصي بعد كلام طويل: ليس هناك ما يمنع أن يتبادل المسلم وغير المسلم الذي يواطنه أو يساكنه أو يتصل به في عمل أو معاملة الزيارة أو التحية أو الدعوة لطعام أو ما أشبه ذلك ، بشرط ألا يؤدي ذلك إلى تحليل شيء حرام ، أو تحريم شيء حلال .
وإذا اقتضت ظروف الجوار زيارة للعزاء في حدود المجاملة الإنسانية ، فإن ذلك ممكن .
وقال الشيخ علي الطنطاوي :
الذين لم يخرجونا من ديارنا ولم يقاتلونا في ديننا ولم يعينوا علينا عدوَّنا ، هؤلاء لنا أن نجاملهم مجاملة ليست من قبيل المولاة ؛ فنحن لا نواليهم ولا نؤيدهم على فرقة من المسلمين ، وإنما هي فقط مجاملة وأدب اجتماعي لا يمنعه الإسلام مع أمثال هؤلاء .
وقال الشيخ مصطفى الزرقا عن حكم تهنئة النصارى بعيد الميلاد وعيد رأس السنة الميلادية :
إنَّ تهنئة الشخص المسلم لمعارفه النصارى بعيد ميلاد السيد المسيح عليه الصلاة والسلام هي في نظري من قبيل المجاملة لهم والمحاسنة في معاشرتهم .
وإن الإسلام لا ينهانا عن مثل هذه المجاملة أو المحاسنة لهم ومن يتوهم أن هذه المعيدة لهم في يوم ميلاه عليه السلام حرام ؛ لأنها ذات علاقة بعقيدتهم فهم مخطئ ، فليس في هذه المجاملة صلة بتفاصيل عقيدتهم في عيسى عليه السلام .
وقد نقل أنَّ نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام مرت به وهو بين أصحابه جنازة يهودي فقام لها .
فهذا القيام قد كان تعبيراً عما للموت من هيبة وجلال ، ولا علاقة له بعقيدة صاحب الجنازة .
والمسلم مطلوب منه أن يظهر محاسن الإسلام واعتداله لغير المسلمين ، ولا يجبرهم إذا كانوا مكن رعاياه وأهل ذمته على الإسلام ، بل يتسامح معهم ويتركهم على ما يدينون به .
أضف إلى ذلك حال المسلمين اليوم من الضعف بين دول العالم ، وتآمر الدول الكبرى عليهم واتهامهم بأنهم إرهابيون ومتعصبون لا يُطْمأن إليهم إلى آخر المعزوفة ..
وحاجة المسلمين اليوم إلى تغيير الصورة القاتمة عنهم التي يصورهم بها العالم الأجنبي .
ولا سيما أنَّ المسلم قد يأتيه في عيد الفطر والأضحى معارف له من النصارى يهنئونه فيه ، فإذا لم يرد لهم الزيارة في عيد الميلاد ، كان ذلك مؤيِّداً لما يـــُتَّـهم به المسلمون من الجفوة وعدم استعدادهم للائتلاف مع غيرهم ، والمحاسنة في التعامل .
وما يقال عن التهنئة بعيد الميلاد يقال عن رأس السنة الميلادية بطريق الأولوية ؛ لأن رأس السنة الميلادية لا علاقة له بالعقيدة ، وإنما هو مجرد تاريخ .
كما ذهب الأستاذ الدكتور نصر فريد واصل مفتي الجمهورية الأسبق إلى جواز ذلك فقال :
لا مانع شرعاً من تهنئة غير المسلمين في أعيادهم ومناسباتهم . وليس في ذلك خروج عن الدين ، كما يدعي بعض المتشددين غير العارفين بتكامل النصوص الشرعية ومراعاة سياقاتها وأنها كالجملة الواحدة .
وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من غير المسلمين ، وزار مرضاهم ، وعاملهم ، واستعان بهم في سلمه وحربه حيث لم ير منهم كيداً .
وكل ذلك في ضوء تسامح المسلمين مع مخالفيهم في الاعتقاد .
ولم يفرق المولى عز وجل بين المسلم وغير المسلم في المجاملة وإلقاء التحية وردها .
والتهنئة في الأعياد والمناسبات ما هي إلا نوع من التحية .
أما ما استشهد به هؤلاء من قوله تعالى :
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا .
على عدم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم من نصارى ويهود ، فإنما هي نظرة قاصرة للنص القرآني ، حيث لم يرد ذلك صريحاً في الآية ، بل هو اجتهاد في تفسيرها .
وقد نقل فيه عدة آراء ؛ فما بالهم يأخذون منها ما يوافق أهواءهم ويكفرون بغيرها .
وأما دعوى التشبه والموافقة على شعائر غير المسلمين ، فالمنهي عنه التشبه والموافقة في الأفعال والاعتقادات التي نهى الإسلام عنها ، وخالفت شيئاً من ثوابته .
وممن قال بذلك أيضاً : الأستاذ الدكتور علي جمعة ؛ فذهب بعد تفصيل وبيان إلى جواز تهنئة غير المسلم ، وعدها من باب الإحسان .
وهذا ما استقر عليه الفتوي في الجهات الرسمية بمصرنا الحبيبة .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .