عقلانية الحوار.. وعلاقتها بقضايا التجديد (1) بقلم فضيلة د.إبراهيم الهدهد
إن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ولما كانت كذلك كان التجديد لازمة من لوازمها، بحكم تغير الأحوال والأوقات والنوازل، وقد جاء فى الحديث أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (رواه السيوطى فى الجامع الصغير حديث رقم 2755). وكانت ضربة لازب أن تكون نصوص الشرع حمالة أوجه؛ فجاءت النصوص باللسان العربى المبين، وهو أوسع الألسنة، وقد استقرت عند علمائنا قاعدة «النصوص متناهية، والوقائع لامتناهية» وقد صنف علماء الأمة مصنفات فى علوم العقل لتكون ضوابط فى النظر والاستنباط، كما صنف علماء الأمة مصنفات نفيسة فى علم الكلام، وآداب البحث والمناظرة، وأدب الحوار، وطرق الخلاف بين الأسلاف، وزخرت مصنفاتهم بتجليات تلك العلوم تطبيقًا عمليًا، ولقد كان تعانق العقل والنص السبيل الأعلى للتجديد فى الفكر الدينى فى كل زمن، وهذا البحث يؤكد هذه الحقيقة فى نقاط محددة: «عناية القرآن والسُّنَّة بالعقل- ذم التقليد عند العلماء- العقل والنقل فى الإسلام متعانقان لا متعاندان العقل والحوار فى الإسلام- اختلاف التنوّع أثر حوار العقل مع النص- قاعدة لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه من نتائج حوار العقل مع النقل- قواعد التجديد بإعمال العقل فى النص لاستنباط الأحكام- القواعد العامة للحوار العقلى».
عناية القرآن والسُّنَّة بالعقل
إن نصوص الوحى كتابًا وسُنَّة، والعقل الصحيح استنباطًا وفهمًا، وحوارًا، هما الطريق لا سواه فى بنية هذا الشرع الحنيف، وبيان معالم الإسلام، وحينما وقفت طائفة عند النص وحده، دون استصحاب العقل فى النظر بعد اكتمال علوم الوسائل، ضلت طريق الصواب، وجمُدت على الفهم الظاهر، دون إعمال العقل فيه طبقًا لقواعد قررها أهل العلم من أسلافنا.
والذى يطالع تراثنا الرائع يجد فقهاءنا كتبوا الفقه فى كل عصر وعرضوه بما يلائم الأحوال مكانًا، وزمانًا وبيئةً، ولو لم يكن لهم هذا الطريق لبقى الفقه مذ كتبه الأوائل، ومن هنا استقرت لديهم قاعدة: «تغير الأحكام بتغير الأزمان والأماكن والأشخاص»، ولم تجد لمستجدات الزمان واختلافات الوقائع والأحوال مكانًا فى الفقه الإسلامى، لذا استقرت عند القوم قواعد النظر فى النص الشريف قرآنًا وسُنَّةً.
وقعت الألفاظ التى تصف العمليات العقلية كثيرًا فى الذكر الحكيم على هذا النحو:
1- مادة «ع ق ل» والفهم والضبط عملية عقلية وقد وقعت هذه المادة تسعًا وأربعين مرة بصيغ متنوعة: «عقل، تعقلون، نعقل، يعقلها، يعقلون». والملحوظ فى تدبر هذه المادة ومواقعها فى الذكر الحكيم، أنها وقعت فى سياق الحوار، والإقناع بطريق المقايسة والاستدلال والاستنباط.
2- مادة «ف ك ر» والتفكير عملية عقلية أعلى من الفهم وقد وقعت هذه المادة ثمانى عشرة مرة بصيغ متنوعة: «فكر، تتفكرون، يتفكرون».
3ـ مادة: «ف ق هــ» والفقه من عمليات العقل وقد وقعت هذه المادة عشرين مرة بصيغ متنوعة: «تفقهون، يفقهوه، نفقه، يتفقهوا»، ولما كان العقل أداة الفقه أثنى القرآن الكريم على أهل الفقه وعده باب جهاد؛ إذ جعل الاشتغال به نفيرا جيدًا: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (التوبة: 122)، وفى السُّنَّة المشرفة: «من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين»، والفقهاء أفضل من العباد «لَفَقيهٌ واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد».
4- مادة «د ب ر» والتدبر من عمليات العقل العليا، وقد وقعت أربع مرات فى الذكر الحكيم: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» (النساء: ٨٢)؛ أى أن التدبر الحق يفضى إلى أن القرآن من عند الله؛ لأنه خلا من التفاوت فى طبقات الكلام ومستوياته البلاغية، كما هى عادة البشر يجيدون أبوابًا من الكلام، ويتفاوت بيانهم حسب إجادتهم، ومن الآيات: « أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» (محمد: 24)، «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ» (المؤمنون: 68) «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» (ص: 29).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المستشار العلمى للمنظمة العالمية لخريجى الأزهر ـ رئيس جامعة الأزهر الأسبق