عقلانية الحوار.. وعلاقتها بقضايا التجديد (2)
بقلم: د.إبراهيم صلاح الهدهد، رئيس جامعة الأزهر الأسبق، عضو مجمع البحوث الإسلامية- المستشار العلمى لمنظمة خريجى الأزهر.
- تعددت أسماء العقل فى القرآن: «اللب»، وقد جاء جمعًا ست عشرة مرة فى الذكر الحكيم، ومنه قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيٰوةٌ يٰٓأُولِى الْأَلْبٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة: ١٧٩). «النهية» وقد جاء مجموعًا ومنه قول تعالى: «كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعٰمَكُمْ . إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَءَايٰتٍ لِّأُولِى النُّهٰى» (طه: ٥٤) وقوله تعالى: «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ . إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى» (طه: ١٢٨(، والقلب جاء بمعنى أداة الوعى والإدراك فى مائة وثلاثين موضعًا، ومنه قول تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ . لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا . أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ . أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (الأعراف: ١٧٩)، إلا فى موضعين جاء فيهما بمعنى أداة ضخ الدماء: «الأحزاب: 10 وغافر: 18».
مدحت السُّنَّة المطهرة من يعمل العقل فى النص؛ ففى الحديث الشريف: «نضّر الله عبدًا سمع مقالتى فوعاها، ثم بلغها عنى، فرُبّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه». وواضحٌ جلىٌ أن الحديث يشير إلى تفاوت الفهم فى النص الواحد.
ذم التقليد عند العلماء.. إعلاء للعقل
يقول أبوحامد الغزالى (ت. 505هــ): «فجانِب الالتفات إلى المذاهب، واطلب الحق بطريق النظر، لتكون صاحب مذهب، ولا تكن في صورة أعمى.. فلا خلاص إلا فى الاستقلال». ويقول أيضًا: «فاعلم يا أخى أنك متى كنت ذاهبًا إلى تعرّف الحق بالرجال من غير أن تتكل على بصيرتك، فقد ضل سعيك، فإن العالم من الرجال إنما هو كالشمس أو كالسراج يعطى الضوء، ثم انظر ببصرك، فإن كنت أعمى فما يغنى عنك السراج والشمس، فمن عول على التقليد هلك هلاكًا مطلقًا».
العقل والنقل فى الإسلام.. متعانقان لا متعاندان
بيَّن علماء الأمة الراسخون أن العقل والنقل متعانقان لا متعاندان، وأن بينهما تكاملًا.. قال الإمام أبوحامد الغزالى: «اعلم أن العقل لا يهدى إلا بالشرع، والشرع لا يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأسِّ والشرع كالبناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس، والعقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولن يغنى البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولن يغنى الشعاع ما لم يكن بصر، فلهذا قال الله تعالى: « يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ . قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (المائدة: 15- 16)؛ فالعقل كالسراج والشرع كالزيت، الذى يمده، فما لم يكن زيت لم يحصل السراج، وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت، وعلى هذا نبه الله- سبحانه وتعالى- بقوله: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ . مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ . الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ . الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ . نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ . يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ . وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ . وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (النور: ٣٥) «فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان، بل متحدان، ولكون الشرع عقلًا من خارج، سلب الله- تعالى- اسم العقل من الكافر فى غير موضع من القرآن كقوله- تعالى-: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً . صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ» (البقرة: 171).
ورحم الله الإمام محمد عبده؛ إذ قال: «والذى علينا اعتقاده أن الدين الإسلامى دين توحيد فى العقائد، لا دين تفريق فى القواعد، فالعقل من أشد أعوانه، والنقل من أقوى أركانه، وما وراء ذلك فنزعات شياطين أو شهوات سلاطين».
العقل والحوار فى الإسلام
الإسلام يقدّر العقل أيما تقدير، ويأبى أن يُفْرضَ عليه أمرٌ، حتى لو كان ذلك الأمر حقًا، يجلى ذلك بوضوح قول الحق- سبحانه-: «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ» (هود: ٢٨)؛ أي: لن نلزمكم بها مع كونها حقًا، ومنه قوله- تعالى-: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ . قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ . فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (البقرة: ٢٥٦)، وقد بيَّن لنا القرآن الكريم ارتكاز الحوار على العقل فى قوله : « قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ . أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا . مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ . إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» (سبأ: ٤٦).
وفى القرآن حوارات كثيرة فى أكثر من موضع الارتكاز فيها على العقل نورد من ذلك نموذجين؛ الأول قوله- تعالى-: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ . قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ . وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (البقرة: 258)
الثانى: قوله- تعالى-: « فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ ٱلَّيلُ رَءَا كَوكَبا. قَالَ هَٰذَا رَبِّي. فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلأٓفِلِينَ . فَلَمَّا رَءَا ٱلقَمَرَ بَازِغا قَالَ هَٰذَا رَبِّي. فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّم يَهدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلقَومِ ٱلضَّآلِّينَ . فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمسَ بَازِغَة. قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَآ أَكبَرُ. فَلَمَّآ أَفَلَت قَالَ يَٰقَومِ إِنِّي بَرِيٓء مِّمَّا تُشرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهتُ وَجهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضَ حَنِيفا. وَمَآ أَنَا مِنَ ٱلمُشرِكِينَ» (الأنعام: ٧٦- ٧٩).
يقول أبو حامد الغزالى: وعلى الجملة فالقرآن من أوله إلى آخره محاجة مع الكفار، فعمدة أدلة المتكلمين فى التوحيد قوله تعالى: « لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا . فَسُبْحٰنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» (الأنبياء: ٢٢) وفى النبوة: «وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (البقرة: ٢٣)، وفى البعث قوله- تعالى-: « قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ . وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (يس: ٧٩)، وغير ذلك من الآيات، والأدلة.
اختلاف التنوّع أثر حوار العقل مع النص
نزل القرآن الكريم بلسان عربى مبين، وهذا اللسان، كما وصفه الإمام الشافعى فى الرسالة قائلًا: «ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع ألفاظه إنسان غير نبى»، والأدلة الشرعية وقعت بهذا اللسان المبين، فأكثر الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة ظنية الدلالة والخلاف فيها معتبر إذا صدر من أهل الاجتهاد، وظنية الدلالة إنما جاءت من طبيعة اللغة، كالخلاف فى معنى الباء فى قوله- تعالى-: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ . وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا . وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ . مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون» (المائدة: 6)؛ فالباء تحتمل عدة معانٍ وكلها معتبر: الابتداء والإلصاق والتبعيض والتوكيد؛ فوقع الخلاف فيما يمسح من الرأس إما الربع أو جزء من الرأس أو كل الرأس، فلابد من الاختلاف، كما أن أكثر الأحاديث غير المتواترة ظنى الثبوت.