عقلانية الحوار.. وعلاقتها بقضايا التجديد (3)

بقلم: أ.د. إبراهيم صلاح الهدهد، رئيس جامعة الأزهر الأسبق- عضو مجمع البحوث الإسلامية- المستشار العلمى للمنظمة العالمية لخريجى الأزهر.

وقوع الاختلاف بين الصحابة فى عصر النبى

جاء فى صحيح البخارى من حديث ابْنِ عُمَرَ- رضى الله عنهما- قَالَ: قَالَ النَّبِي- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِى بَنِى قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ فِى الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّى، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِى- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ».

وواضح جلى أن بعضهم حمل النص على ظاهره، وبعضهم تأول النص، وقرن قول النبى- صلى الله عليه وسلم- بالقرآن العظيم: «فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ . فَإِذَا اطْمَأنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ . إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا» (النساء: 103).

ومنه أيضًا ما رواه أبوداود فى سُنَّنه عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِى قَالَ: خَرَجَ رَجُلَانِ فِى سَفَرٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِى الْوَقْتِ فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ، وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ الله- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِى لَمْ يُعِدْ: «أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ، وَقَالَ لِلَّذِى تَوَضَّأَ وَأَعَادَ: لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ».

قال السمعانى: «فأما الذى يسوغ فيه الاختلاف وهى فروع الديانات إذا استخرجت أحكامها بأمارات الاجتهاد ومعانى الاستنباط، فاختلاف العلماء فيه مسوغ، ولكل واحد منهم أن يعمل فيه مما يؤدى إليه اجتهاده».

فالخلاف السائغ المقبول فى المسائل التى لم يرد فى شأنها نص قاطع فى ثبوته ودلالته، وذلك بسبب كونها:

1- من المسائل التى ورد فيها نص ظنى الدلالة.

2- من المسائل التى ورد فيها نص ظنى الثبوت.

3- من المسائل التى سكت عنها الشرع.

4- من المسائل المستحدثة بعد انقطاع الوحى.

فهذا الخلاف محمود لأنه لا يخالف نصًا قطعيًّا أو إجماعًا مرعيًّا، ولا يهدم أصلًا ولا مقصدًا من مقاصد الشرع؛ فيجب حسن الظن بالعلماء، والتزام الأدب فى الحوار، وعدم الإنكار على المخالف.

قاعدة: لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه

من نتائج حوار العقل مع النقل

علم قواعد الفقه من أعظم العلوم العقلية التى أنتجتها عقول علمائنا، وكذلك علم مقاصد الشريعة الإسلامية، وعلم أصول الفقه، وكلها من العلوم التى تبرهن عمليًا على صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان؛ إذ هى شريعة عالمية، ومن علم قواعد الفقه هذه القاعدة هى القاعدة الخامسة والثلاثون فى الأشباه والنظائر للسيوطى، وقد عبر عنها بعدة تعبيرات أشهرها: «لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه» ولها صياغات أخرى: «لا إنكار فى مسائل الاجتهاد- الإنكار لا يلزم فى محل الاجتهاد إذا كان الاختلاف فى الفروع- لا إنكار فى مسائل الاجتهاد إلا إذا ضَعُف الخلاف- لا إنكار فى مسائل الخلاف- لا نكير فى مختلف فيه».

هذه القاعدة محل اتفاق عند علماء المذاهب الأربعة وغيرهم، ويستدل عليها بالحديث الصحيح: عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله- صلى الله عليه وسلم-ﷺ يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» والدليل على ذلك أن الصحابة- رضوان الله عليهم- اختلفوا فى الفروع دون نكير أو عيب من بعضهم على بعض، والذى يطالع كتب السادة الفقهاء يرى أن مسائل الاختلاف أكثر من مسائل الاتفاق، بل يرى فى المذهب الواحد اختلافًا بين علمائه فى الفروع، والشواهد على ذلك كثيرة؛ فالفقهاء متفقون على أن عورة الرجل سوأتاه ثم اختلفوا فى الفخذين أهما عورة أم لا؟ فمن رؤى كاشفًا فخذيه فى الحمام لا ينكر عليه مادام ساترًا سوأتيه، وكذلك الجهر بالبسملة قبل الفاتحة أو الإسرار بها موضوع اختلاف، وهكذا.

زر الذهاب إلى الأعلى