فضيلة خلق الأمانة

                                                  

بقلم الأستاذ الدكتور/ أحمد علي عبد الساتر ـ كلية الآداب/ جامعة الوادي الجديد



الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي العربي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين حق قدره ومقداره العظيم.
أما بعد، لقد حثنا الله سبحانه وتعالى على أداء الأمانة، فقال عز وجل في كتابه العزيز ( إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) ]النساء: 58[، كما حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أداء الأمانة فقال: أدِّ الأمانةَ إلى منِ ائتمنكَ ، ولا تخنْ من خانكَ ، الراوي : يوسف بن ماهك المكي | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح أبي داود.

2 مفهوم الأمانة:

معنى الأمانة لغةً:
الأمانة ضد الخيانة، وأصل الأَمْن: طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأمانة مصدر أمن بالكسر أمانة فهو أمين، ثم استعمل المصدر في الأعيان مجازًا، فقيل الوديعة أمانة ونحوه، والجمع أمانات، فالأمانة اسم لما يُؤمَّن عليه الإنسان، نحو قوله تعالى: وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ [الأنفال: 27] ، أي: ما ائتمنتم عليه، وقوله: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الأحزاب: 72 ].

((لسان العرب)) لابن منظور (13/21)، ((مفردات ألفاظ القرآن)) للرَّاغب الأصفهاني (1/90)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/24).

معنى الأمانة اصطلاحًا:
الأمانة: هي كلُّ حقٍّ لزمك أداؤه وحفظه. ((فيض القدير)) (للمناوي(1/288

وقيل هي: (التَّعفُّف عمَّا يتصرَّف الإنسان فيه مِن مال وغيره، وما يوثق به عليه مِن الأعراض والحرم مع القدرة عليه، وردُّ ما يستودع إلى مودعه). ((تهذيب الأخلاق)) المنسوب للجاحظ (ص 24).

وقال الكفوي: (كلُّ ما افترض على العباد فهو أمانة، كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار). ((الكليات)) (ص 269).

3 ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين:
عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته وسط قريش كلها بالصادق الأمين وذلك لما اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم من الصدق والأمانه بين الناس، والفضل ما شهدت به الأعداء ، و لقد تجلًّت الأمانة في شخصية الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم وظهر ذلك جلياً للعالم كله وقت هجرته صلى الله عليه وسلم فكان أثرياء قريش يستودعونه أماناتهم و ودائعهم النفيسة فكان بوسعه أن يهاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ويأخذ كل هذه الودائع ولا يردها لهم ولكنه صلى الله عليه وسلم بأمانته أمر عليًّا بن أبي طالب – كرم الله وجهه – وكان غلاما صغيرا أن يبيت في فراشه ليرد الأمانات إلى أهلها، وقد وصف الإمام البوصيري رحمه الله شخصية الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم فقال :

مُـحَـمَّـدٌ أَشْرَفُ الْأَعْرَابِ وَالْعَجَمِ

مُحَمَّدٌ خَيْرُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ

مُـحَـمَّـدٌ بَاسِطُ الْمَعْرُوفِ جَامِعُهُ

مُـحَمَّدٌ صَاحِبُ الْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ

مُـحَـمَّـدٌ تَـاجُ رُسْـلِ الـلـهِ قَـاطِبَةً

مُـحَـمَّـدٌ صَـادِقُ الْأَقْـوَالِ وَالْكَلِمِ

مُـحَـمَّـدٌ ثَـابِـتُ الْـمِيثَاقِ حَافِظُهُ

مُـحَـمَّـدٌ طَـيِّبُ الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ

مُـحَـمَّـدٌ جُـبِـلَـتْ بِـالـنُّـورِ طِينَتُهُ

مُـحَـمَّـدٌ لَـمْ يَـزَلْ نُورًا مِنَ الْقِدَمِ

وظهرت أمانته صلى الله عليه وسلم جلية أيضاً في تجارته في مال السيدة خديجة – رضي الله عنها – حيث كان أميناً على مالها وتجارتها، وشهد له بذلك الغلام ميسرة، وهذا هو السبب الرئيس الذي دفع السيدة خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها – إلى اختياره – صلى الله عليه وسلم – زوجاً لها رغم فارق السن الكبير بينهما.

كما تجلت الأمانة في أبهى صورها في شخصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأن كان أميناً على الوحي، فكان يبلغ – صلى الله عليه وسلم – ما أوحي إليه من ربه – سبحانه وتعالى – بلا زيادة أو نقص، وفي ذلك يقول المولى – عز وجل – : ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ {النجم: 3، 4}

4 الأمانة في القول والعمل:
يجب على الإنسان المؤمن أن يكون أميناً مع نفسه أولاً فلا يقول للناس شيئاً أو أن يأمرهم بالمعروف ولا يأتيه أو أن ينهاهم عن المنكر ويأتيه.

وفي ذلك يقول المولى عز وجل في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3).]الصف: 2،3 [

وجاء في تفسير الإمام الطبري – رحمه الله – لهاتين الآيتين أن الله – سبحانه وتعالى – يقول:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا صدّقوا الله ورسوله، لم تقولون القول الذي لا تصدّقونه بالعمل، فأعمالكم مخالفة أقوالكم { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } يقول: عظم مقتًا عند ربكم قولكم ما لا تفعلون.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أُنـزلت هذه الآية، فقال بعضهم: أُنـزلت توبيخًا من الله لقوم من المؤمنين، تمنوا معرفة أفضل الأعمال، فعرّفهم الله إياه، فلما عرفوا قصروا، فعوتبوا بهذه الآية.
 
ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحبّ الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان بالله لا شكّ فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقرّوا به؛ فلما نـزل الجهاد، كره ذلك أُناس من المؤمنين، وشقّ عليهم أمره، فقال الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ }

وفي هذا الشأن يحذر النبي – صلى الله عليه وسلم – كل من يخالف قوله فعله فيقول – صلى الله عليه وسلم – : عَنْ أبي زيدٍ أسامةَ بنِ زيدِ بنِ حارثةَ – رَضْيَ اللهُ عنْهما – قال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: «يؤتى بالرَّجلِ يومَ القيامةِ فيُلقى في النَّارِ، فتندلق أقتابُ بطنِه، فيدورُ بها كما يدورُ الحمارُ في الرَّحا، فيجتمعُ إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تك تأمرُ بالمعروفِ وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه» متفق عليه.

هذا الحديث فيه التحذير الشديد بهذه الصورة البشعة لكل من يخالف قوله فعله للرجل الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، والعياذ بالله.
تأتي الملائكة برجل يوم القيامة فيلقى في النار إلقاءً شديداً، لا يدخلها برفق، ولكنه يلقى فيها كما يلقى الحجر في البحر، فتخرج أمعاؤه من بطنه من شدة الإلقاء، فيدور بأمعائه كما يدور الحمار في الطاحون، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون له: ما لك؟ أي شيء جاء بك إلى هنا، وأنت كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول مُقِرًّا على نفسه: كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه.

 فالواجب على المرء أن يبدأ بنفسه فيأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر؛ لأن أعظم الناس حقا عليك بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسك.

وفي ذلك يقول الإمام أبو الأسود الدؤلي – رحمه الله – :

يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ

هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ

تَصِفُ الدَّواءَ لِذي السَّقامِ وَذي الضَّنا

كيما يَصحّ بِهِ وَأَنتَ سَقيمُ

وَتَراكَ تُصلِحُ بالرشادِ عُقولَنا

أَبَداً وَأَنتَ مِن الرَّشادِ عَديمُ

فابدأ بِنَفسِكَ فانهَها عَن غَيِّها

فَإِذا اِنتَهَت عَنهُ فأنتَ حَكيمُ

فَهُناكَ يُقبَلُ ما تَقولُ وَيَهتَدي

بِالقَولِ منك وَينفَعُ التعليمُ

لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ

عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ

 5 ـ الأمانة العلمية:

للأمانة مفهوم واسع شامل يمتد إلى الأمانة العلمية فلا يليق بطالب علم أو باحث أن ينقل نصاً أو مقالاً أو بحثاً أو كتاباً قام بتأليفه غيره، لأن ذلك يعتبر سرقة علمية، وإنما يجوز له أن يقتبس إقتباسات بسيطة جداً للإستشهاد بها في بحثه أو كتابه أو رسالته شريطة أن يوثق هذه الإقتباسات توثيقاً كاملاً وأن يرد وينسب هذه المؤلفات إلى مؤلفها الأصلي.

6 ـ خاتمة:

مما سبق يتضح لنا جميعاً أن مجتمعاتنا في حاجة ماسة إلى التحلي بفضيلة خلق الأمانة، فالمجتمع يحتاج إلى الأب الأمين الذي يؤتمن على تربية أولاده تربيةً إسلاميةً صحيحة، كما يحتاج المجتمع إلى الزوج الأمين والزوجة الأمينة حيث يراعي كل منهما ربه في معاملة الآخر معاملةً إسلاميةً صحيحة، كما يحتاج المجتمع إلى المعلم الأمين الذي يؤتمن على تعليم أبنائنا وبناتنا تعليماً صحيحاً خلياً من الغش والتدليس، كما يحتاج المجتمع إلى الصانع الأمين والفلاح الأمين والمسئول الأمين حتى يعم السلام والأمان والرخاء والوئام بين أبناء المجتمع الواحد.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي العربي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.

زر الذهاب إلى الأعلى