من كلمات ومحاضرات الإمام الأكبر.. صُبْحٌ جَديدٌ أشرق على البشرية بولادة المصطفى ﷺ بعد ليلٍ طويل حالك الظُلمات

وُلِدَ سيدنا محمد ﷺ، وُوِلدَ بولادته صبحٌ جديدٌ، أشرق على البشرية بعد ليلٍ طويل حالك الظلمات، أوشكت فيه الإنسانية أن تتردى في وَهْدته وإلى الأبد.

وبدا جليًا واضحًا- فيما يقول المؤرخون- أن الحضارة العظيمة التي تراكمت في ذلكم الوقت، والتي استغرق بناؤها أربعة آلاف من السنين كانت مشرفة على الزوال، وأن من المرجح أن الجنس البشري كان سيعود إلى حالة من الفوضى والهمجية، تصبح في ظلالها كل قبيلة وكل طائفة عدوة لجارتها، لا تعرف لها نظامًا ولا تتبين لها قانونًا.. وأن العالم بات مُفتقِرًا إلى ثقافة جديدة تحل محل ثقافة العرش والنظم التي كانت تستند إلى القوة والاستبداد وقرابة الدم.. وشاء الله أن تأتي الثقافة البديلة من جزيرة العرب، وأن تجد هذه الثقافة الجديدة في مبدأ التوحيد ولغة الوحي النبوي أساسًا لوحدة العالم كله.

ظهر النور المحمدي والعالم الإنساني يعاني من الأمراض والعلل والأوبئة النفسية والاجتماعية والخُلُقية، وسرعان ما أعاد هذا الوليد اليتيم، الذي شب وترعرع في صحراء العرب، بعد أن اختاره الله رسولًا ونبيًا.. سرعان ما أعاد للعالم توازنه وتحرُّرَه من قيود الجهالة وظلمات الوهم، وجبروت القوة.. وبحيث أصبح بنو الإنسانية كلهم مدينين لنبي الإسلام بالكثير الذي أنار لهم الطريق في منعطفاتها المظلمة، وحتى الإنسان الغربي يظل مدينًا، بل مُثقلًا بجميلٍ لا حدود له، للحضارة العالمية التي أرسى دعائمها هذا النبي الكريم، وهو يؤصِّلُ لمعاني الرحمة والعدل والتعاون بين الناس، والكف عن العنف والإيذاء، وترويع الآخر أيًا كان هذا الآخر.

وكيف لا!! وقد بلغت الرحمة مداها في نبي الإسلام حين حرَّم ترويع الناس وتخويفهم حتى لو كان على سبيل الملاعبة أو المزاح، يقول النبي ﷺ: «من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كان أخاه لأبيه وأمه».

وفي هذا الحديث نهي شديد عن ترويع الناس وتخويفهم والتعرض لهم بما يؤذيهم، وإن كان التخويف هزلاً ولعبًا، أو كان مع أقرب الناس إليه ممن لا يظن به إلحاق الأذى والضرر، فترويع الناس محرم في الإسلام أيًا كان هذا الترويع.

أما قتل الآمنين، وتفجيرهم بالأسلحة الفتاكة، فما أعرف دِينًا ولا قانونًا ولا نظامًا اجتماعيًا، حرمه أو حذر من جُرمه وشناعته مثل الإسلام ونبي الإسلام محمد ﷺ.

ولا يزال القرآن الكريم هو القانون الديني الوحيد الذي يحكم على قاتل العمد بالخلود في النار، وذلك إذا ما قورن بنصوص أخرى دينية لا ترى بأسًا من إبادة الآخرين رجالًا ونساءً وأطفالًا وحيوانًا ونباتًا وجمادًا، ولا يزال هذا الفرق واضحًا بين الحضارة الإسلامية التي قامت على احترام الآخر، واحترام دمه، ما لم يعلن الحرب ويبدأ القتال، وبين الحضارات الأخرى التي أبادت شعوبًا بأسرها لتحل محلها، وأسست حضارتها في غيبة تامة عن المقومات الأخلاقية والدينية.

إن المسلم الحقيقي في فلسفة الإسلام ومقاصده هو الذي يفر بدينه من هذه الدماء، التي عصمها الله ورسوله، وحرم إراقتها، وتوعد الذي يقتلون الناس بغير حق بالعقاب الأليم والعذاب المقيم في جهنم.. «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» (النساء: 93).

وجاءت تشريعاته ﷺ، مُعضدةً للقرآن الكريم في هذا الشأن، وذلك في أحاديث عدة يصعب حصرها؛ منها قوله ﷺ: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم»، ومنها: «أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يُقضي بين الناس في الدماء»، ومنها: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه: آيس من رحمة الله»، ومنها: «لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن؛ لأكبهم الله في النار».

وعلى الذين يشجعون القتلة الآن، ويدعمونهم بالأموال والتخطيط والفتاوى الضالة، ويدفعونهم دفعًا لقتل المواطنين، وتفجير أنفسهم بين الغافلين، وتحويلهم إلى أشلاء ممزقة في طرفة عين، مخلفين وراءهم جيلًا كاملًا من البؤساء واليتامى والأرامل والثكالى.. على هؤلاء أن يتدبروا هذه الأحاديث، ويأخذوها بعين الجد والاعتبار، ليعلموا أن أموالهم وفتاواهم ليست بمانعتهم من الله، ولا من الخلود في جهنم يوم الحساب.

وقد ابتُلينا في هذه الأيام بمن يقترفون هذه الجرائم، معتقدين أنها أفعال مباحة شرعًا، انطلاقًا من آفة عظمى انطلت على عقول البعض من شبابنا المُضلَّل، وهي تكفير المسلمين والاعتقاد بأن مجتمعهم كافر وجاهلي، وأن قتاله واجب عليهم، ومِن ثَمَّ فعليهم أن يقاتلوا الكفار حتى وإن قتلوا أنفسهم من أجل هذه الغاية. وهذه فتنةٌ عمياءٌ وضلالٌ ما بعده ضلال، وكارثةٌ كبرى على الإسلام قبل أن تكون فاجعة للمواطنين الآمنين.

إن على هؤلاء المخدوعين أن يفيقوا من سكرتهم، وأن يثوبوا إلى رشدهم، ويعودوا إلى وطنهم ومجتمعهم، فإن من ورائهم يومًا ثقيلًا: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ فيه مَالٌ وَلا بَنُونَ. إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (الشعراء: 88- 89). «يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا» (النازعات: 40).

عليهم أن يعلموا أن هذه الجرائم المنافية للدين والأخلاق والإنسانية، أساءت إلى الإسلام كثيرًا وشوهت صورته السمحة النقية، وقدمت لأعداء الإسلام والمسلمين صورة كريهة عن هذا الدِّينِ الحنيف: دِين الرحمة والمحبة والتعارف بين الناس، وكم شوهت هذه المجازفات اللاأخلاقية من صورة نبينا الكريم ﷺ، في أعين أعدائه وشانئيه، وأمدتهم بأخيلة مريضة، صوَّرته في صور تخطت حدود الأدب والذوق، وارتكست في بربرية ووحشية لا حدود لها، هذا النبي الذي قال عن نفسه: «إنما أنا رحمة مهداة»، والذي حمل إلى الناس كتابًا إلهيًا ترددت فيه كلمة الرحمة ومشتقاتها مائتين وثمانين مرة، وهذا التكثيف لمعنى الرحمة لا نعرفه إلا للقرآن الكريم، وإلا لهذا النبي العظيم الرحيم، الذي وسعت رحمته المسلمين وغير المسلمين، والذي نهى نهيًا صريحًا قاطعًا عن قتل نساء الكفار المحاربين وصبيانهم وشيوخهم وأطفالهم، وقال: «لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا، ولا صغيرًا، ولا امرأةً»، كما نهى عن قتل الأعمى في جيش الأعداء، وعن قتل الذرية والإماء والعبيد والأجراء والمدنيين، الذي لا يشتركون في القتال، كما نهى عن قتل الرهبان واقتحام الأديرة وأماكن العبادة، بل إن رحمته ﷺ، تخطت عالم الإنسان- أياً كان هذا الإنسان- لتحنو على عوالم الحيوان والنبات والجماد في جيش العدو، وذلك حين حرَّم على جيوش المسلمين ذبح الحيوانات في معسكر عدوهم وقطع شجرهم المثمر وهدم مبانيهم أو تخريبها، وحرَّم التمثيل بجثث القتلى من الكفار.

ومن أعجب ما قرأت في سيرة هذا النبي الرحيم ما رواه أصحاب السير والمغازي في هذا المقام من أن النبي ﷺ، وهو متجه لفتح مكة على رأس جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل، بصر في طريق الجيش بكلبةٍ تحن على أولادها، ومن حولها يرضعونها، فأمر رجلًا من أصحابه، يُقال له جعيل بن سراقة، أن يقوم حِذاءها، حتى لا يتعرض لها أحد من الجيش ولا لأولادها..

ولا تعجبوا- أيها السادة الفضلاء- فإن الله تعالى يقول في كتابه الكريم: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: 107).

زر الذهاب إلى الأعلى