خُلُق الأمانة (1-2)
بقلم: د.أحمد علي عبد الساتر، كلية الآداب- جامعة الوادى الجديد.
حثنا الله سبحانه وتعالى على أداء الأمانة؛ فقال عز وجل فى كتابه العزيز «إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» (النساء: 58)، كما حث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أداء الأمانة؛ فقال: «أدِّ الأمانةَ إلى منِ ائتمنكَ، ولا تخنْ من خانكَ» (الراوى: يوسف بن ماهك المكى «المحدث: الألبانى» المصدر: صحيح أبى داود).
مفهوم الأمانة
-معنى الأمانة لغةً: الأمانة ضد الخيانة، وأصل الأَمْن: طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأمانة مصدر أمن بالكسر أمانة فهو أمين، ثم استعمل المصدر فى الأعيان مجازًا، فقيل الوديعة أمانة ونحوه، والجمع أمانات، فالأمانة اسم لما يُؤمَّن عليه الإنسان، نحو قوله تعالى: «وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ» (الأنفال: 27)، أى: ما ائتمنتم عليه، وقوله: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» (الأحزاب: 72).
(لسان العرب) لابن منظور (13/21)، (مفردات ألفاظ القرآن) للرَّاغب الأصفهانى (1/90)، (المصباح المنير) للفيومى (1/24)..
-معنى الأمانة اصطلاحًا:
الأمانة: هى كلُّ حقٍّ لزمك أداؤه وحفظه. (فيض القدير) (للمناوى 1/ 288)
وقيل هي: التَّعفُّف عمَّا يتصرَّف الإنسان فيه مِن مال وغيره، وما يوثق به عليه مِن الأعراض والحرم مع القدرة عليه، وردُّ ما يستودع إلى مودعه. (تهذيب الأخلاق) المنسوب للجاحظ (ص 24).
وقال الكفوى: كلُّ ما افترض على العباد فهو أمانة، كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتــم الأســرار. (الكليات) (ص 269).
وقد عُرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته وسط قريش كلها بالصادق الأمين، وذلك لما اشتهر عنه- صلى الله عليه وسلم- من الصدق والأمانه بين الناس، والفضل ما شهدت به الأعداء، وقد تجلًّت الأمانة فى شخصية الصادق الأمين- صلى الله عليه وسلم- وظهر ذلك جليًا للعالم كله وقت هجرته- صلى الله عليه وسلم- فكان أثرياء قريش يستودعونه أماناتهم وودائعهم النفيسة؛ فكان بوسعه أن يهاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ويأخذ كل هذه الودائع ولا يردها لهم ولكنه- صلى الله عليه وسلم- بأمانته أمر عليًّا بن أبى طالب- كرم الله وجهه- وكان غلامًا صغيرًا أن يبيت فى فراشه ليرد الأمانات إلى أهلها، وقد وصف الإمام البوصيرى- رحمه الله- شخصية الصادق الأمين- صلى الله عليه وسلم- فقال :
مُـحَـمَّـدٌ أَشْرَفُ الْأَعْرَابِ وَالْعَجَمِ .. مُحَمَّدٌ خَيْرُ مَنْ يَمْشِى عَلَى قَدَمِ
مُـحَـمَّـدٌ بَاسِطُ الْمَعْرُوفِ جَامِعُهُ .. مُـحَمَّدٌ صَاحِبُ الْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ
مُـحَـمَّـدٌ تَـاجُ رُسْـلِ الـلـهِ قَـاطِبَةً .. مُـحَـمَّـدٌ صَـادِقُ الْأَقْـوَالِ وَالْكَلِمِ
مُـحَـمَّـدٌ ثَـابِـتُ الْـمِيثَاقِ حَافِظُهُ .. مُـحَـمَّـدٌ طَـيِّبُ الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ
مُـحَـمَّـدٌ جُـبِـلَـتْ بِـالـنُّـورِ طِينَتُهُ .. مُـحَـمَّـدٌ لَـمْ يَـزَلْ نُورًا مِنَ الْقِدَمِ
وظهرت أمانته- صلى الله عليه وسلم- جلية أيضًا فى تجارته فى مال السيدة خديجة- رضى الله عنها- حيث كان أمينًا على مالها وتجارتها، وشهد له بذلك الغلام ميسرة، وهذا هو السبب الرئيس الذى دفع السيدة خديجة بنت خويلد- رضى الله عنها- إلى اختياره- صلى الله عليه وسلم- زوجًا لها رغم فارق السن الكبير بينهما.
كما تجلت الأمانة فى أبهى صورها فى شخصية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأن كان أمينًا على الوحى، فكان يبلغ- صلى الله عليه وسلم- ما أوحى إليه من ربه- سبحانه وتعالى- بلا زيادة أو نقص، وفى ذلك يقول المولى- عز وجل-: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْى يُوحَى»﴿ النجم: 3- 4﴾.
الأمانة فى القول والعمل
يجب على الإنسان المؤمن أن يكون أمينًا مع نفسه أولًا؛ فلا يقول للناس شيئًا، أو أن يأمرهم بالمعروف ولا يأتيه أو أن ينهاهم عن المنكر ويأتيه.
وفى ذلك يقول المولى عز وجل فى كتابه العزيز: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ« (الصف: 2- 3).
وجاء فى تفسير الإمام الطبرى- رحمه الله- لهاتين الآيتين أن الله- سبحانه وتعالى- يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ» حيث يقول- تعالى ذكره-: يا أيها الذين آمنوا صدّقوا الله ورسوله، لِمَ تقولون القول الذى لا تصدّقونه بالعمل، فأعمالكم مخالفة أقوالكم «كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ» يقول: عظم مقتًا عند ربكم قولكم ما لا تفعلون».
واختلف أهل التأويل فى السبب الذى من أجله أُنـزلت هذه الآية، فقال بعضهم: أُنـزلت توبيخًا من الله لقوم من المؤمنين، تمنوا معرفة أفضل الأعمال، فعرّفهم الله إياه، فلما عرفوا قصروا، فعوتبوا بهذه الآية.
ذكر من قال ذلك :
حدثنى على، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية، عن على، عن ابن عباس، فى قوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ» قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحبّ الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان بالله لا شكّ فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقرّوا به؛ فلما نـزل الجهاد، كره ذلك أُناس من المؤمنين، وشقّ عليهم أمره، فقال الله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ».