وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.. بقلم الشيخ أحمد علي تركي

يقَولَ اللهُُ عَزَّ وَجَلَّ :

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ

[الجمعة: 2 [

إِنَّ مَنْ يَنْظُرُ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ يَجِدُهَا مَلِيئَةً بِالْقِيَمِ وَالأَخْلاَقِ وَالْفَضَائِلِ ، فَمَنِ اتَّخَذَ مِنْ سُلُوكِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةً، وَمِنْ أَخْلاَقِهِ قُدْوَةً ، وَمِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ مَنْهَجاًفِي حَيَاتِهِ ؛ يَعْلَمُ يَقِيناً أَنَّنَا سَنُؤَصِّلُ بِهَا الْقِيَمَ الَّتِي تَهَدَّمَتْ ، وَنَغْرِسُ الْمَبَادِئَ الَّتِي تَزَعْزَعَتْ ، وَنُعَزِّزُ الْفَضَائِلَ الَّتِي انْدَرَسَتْ .

جَدِيرٌ بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْرُسُوا سِيرَتَهُ فِي جَمِيعِ مَجَالاَتِ الشَّرِيعَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ .

وَلِمَ لاَ ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ؟

فَمِنْ رَحْمَتِهِ فِي مَجَالِ الْعَقِيدَةِ :

أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ صَنَمٌ ، بَلْ رُبُّمَا كَانَ فِي كُلِّ بَيْتٍ صَنَمٌ ، وَكَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَماً هَدَاهُمْ رَسُولُ الإِسْلاَمِ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّ الأَرْبَابِ ، وَمُسَبِّبِ الأَسْبَابِ .

#وَمِنْ رَحْمَتِهِ فِي مَجَالِ الْعِبَادَةِ :

أَنْ وَجَّهَ أُمَّتَهُ إِلَى الاِعْتِدَالِ وَالتَّوَسُّطِ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ ؛ لأَنَّهُ أَدْعَى لِلاِسْتِمْرَارِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الطَّاعَةِ .

فَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَِّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟

قَالَتْ : هَذِهِ فُلاَنَةُ – تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا – قَالَ:« مَهْ! عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ ، فَوَاللهِ لاَ يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا ، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ .

[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]

وَكَانَ يَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ .

[رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ]

وَمِنْ رَحْمَتهِ فِي الْمَجَالِ الاِجْتِمَاعِيِّ:

التَّعَامُلُ مَعَ الأَهْلِ بِطَلاَقَةِ الْوَجْهِ،وَكَفِّ الأَذَى،وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ،وَالصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ .

فَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ الرَّسُولُ :

أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً؛ فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ،لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئاً غَيْرَ ذَلِكَ،إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ،فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ،وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ،فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً،أَلاَ إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، أَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ :

فَلاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ،وَلاَ يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ .

أَلاَوَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ : أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ .

[رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ :حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ]

وَمِنْ رَحْمَتِهِ فِي تَعَامُلِهِ مَعَ أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ بَنَاتِهِ وَغَيْرِهِمْ :

أَنْ كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى صَدْرِهِ،وَيُدَاعِبُهُمْ وَيُقَبِّلُهُمْ .

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:

قَبَّلَ رَسُولُ اللهِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِساً .

فَقَالَ الأَقْرَعُ : إِنَّ لِي عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَداً .

فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ثُمَّ قَالَ :

مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ .

[رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ]

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ :

أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ .

وَكَانَ إِذَا سَمِعَ بُكَاءَ الصَّبِيِّ وَهُوَ يُصَلِّي أَسْرَعَ فِي صَلاَتِهِ حَتىَّ لاَ يَطُولَ بُكَاؤُهُ .

فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْحَارِثِ بْنِ رِبْعِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ :

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

إِنِّي لَأَقَُومُ إِلَى الصَّلاَةِ ،وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا،فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَِتي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ .

[رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ]

وَكَانَ الرَّسُولُ يَحُثُّ عَلَى التَّعَاوُنِ وَالتَّسَامُحِ بَيْنَ الْجِيرَانِ، ،وَيُشَجِّعُ عَلَى التَّهَادِي بَيْنَهُمْ ،وَتَبَادُلِ النَّصِيحَةِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ .

فَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَاقَالَتْ:

قُلْتُ:يَارَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي ؟
قَالَ : إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَاباً .

[رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ]

وَمِنْ رَحْمَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

أَنَّهُ كَانَ يُوصِي الأَبَوَيْنِ بِالْبَنَاتِ تَعْلِيماً وَتَرْبِيَةً وَتَهْذِيباً وَتَوْجِيهاً وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ .

فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ :

جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا فَسَأَلَتْنِي،فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئاً غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئاً،ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ وَابْنَتَاهَا، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا .

فَقَالَ النَّبِيُّ :

مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْراً مِنَ النَّارِ .

[رَوَاهُ مُسْلِمٌ]

هَذِهِ أَخْلاَقُ الرَّسُولِ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي الأَخْلاَقِ ،وَالْقُدْوَةُ الْعُظْمَى فِي بَابِ الآدَابِ؛ فَقَدْ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْخَلْقِ جَمِيعاً لِيَأْخُذَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .

فَاتَّقُوا اللهََ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمُ الْكَرِيمِ وَبِأَخْلاَقِهِ الْفَاضِلَةِ وَبِصِفَاتِهِ الْحَمِيدَةِ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ قَوْمِهِ عِنْدَمَا صَدَعَ بِالدَّعْوَةِ؛حَتَّى قَابَلََهُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ بِالإِنْكَارِ وَالْعَدَاوَةِ ،وَلَمْ يَسْلَمْ جَسَدُهُ مِنَ الإِيذَاءِ ، عَمَدُوا إِلَى التَّفَنُّنِ فِي إِيذَائِهِ تَارَةً يُخْنَقُ وَأُخْرَى يُلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ سَلَى جَزُورٍ ، وَمَرَّةً يُرْمَى بِالْحِجَارَةِ ، وَتَارَةً يُحْرَمُ مِنَ الأَكْلِ فَلاَ يَأْتِيهِ إِلاَّ خُفْيَةً

فَمِنْ رَحْمَتِهِ :

أَنَّهُ كَانَ يَتَلَقَّى كُلَّ هَذَا الأَذَى مِنْ قَوْمِهِ وَيَحْتَمِلُهُ وَلاَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ .

عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِين.

قَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً .

[رَوَاهُ مُسْلِمٌ]

وَقَالَ عِنْدَمَا ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ :

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ .

[رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ]

نَعَمْ ؛ لَقَدْ كَانَ كَمَا قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلاَ :

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

سورة الأنبياء

اتَّبِعُوا سِيرَتَهُ الْعَطِرَةَ،وَاقْتَدُوا بِأَخْلاَقِهِ الزَّكِيَّةِ،وَتَمَسَّكُوا بِمَنْهَجِهِ الْقَوِيمِ،وَأَخْلاَقِهِ الْفَاضِلَةِ،وَأَدَبِهِ الْكَرِِيمِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً،وَلاَ لَعَّاناً وَلاَ سَبَّاباً،وَكَانَ أَبْغَضَ الْخُلُقِ إِلَيْهِ الْكَذِبُ،وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهاً وَأَطْيَبِهِمْ خُلُقاً وَمَا نِيلَ مِنْ حَقِّهِ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمُ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ،بَلْ كَانَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ .

زر الذهاب إلى الأعلى