(المواريث بين الحق والواجب)

بقلم/ فضيلة الأستاذ الدكتور عباس شومان
رئيس المنظمة العالمية لخريجي الأزهر
الأمين العام لهيئة كبار العلماء

يظهر بين الحين والحين دعوات مكرورة بنصِّها وفصِّها مع زيادة بعض عبارات تعليلية أُسْقِطَ من سابقاتها في تعليل التلاعب بالمواريث، ومحاولة تغيير نظامها الذي أنزله رب العالمين من فوق سبع سماوات مفصَّلا، ولم يتركه كعادة القرآن الكريم للسنة ولا لغيرها، مع أن طريقة القرآن الكريم الغالبة هي ذكر أساس الحكم وترك التفصيل للسنة واجتهادات العلماء، وهذه الدعاوى العبثية بدأت بمحاولة تعديل نصيب المرأة حتى لا تكون على النصف من أخيها، بدعوى أنها في عصرنا أصبحت في العمل والإنتاج كالرجل والأعباء الملقاة على عاتقها؛ كالأعباء التي يتحملها الرجال، وقد سبق الرد على هذه الدعوى وتبين أنها ظالمة للمرأة، وتُفْقِدُها تميُّزَها على الرجال في كثير من الحالات فهي ليست دائما على النصف من الرجل، ثم تطور هذا التوجه إلى دعوى أعم وأشمل وهي طرح مسائل المواريث على المجتمع في استفتاء عام فإذا قرر الناس طريقة أخرى لتقسيم الميراث يتم تعديل التقسيم الذي جاء به كتاب الله! ولست أدري هل بقي لمن يطرحون هذا الطرح من عقولهم ما يدركون به الفرق بين الليل والنهار أو لا؟!.

لقد كتبت من قبل أكثر من مرة في الموضوع ولا رغبة لي في تَكرار الكتابة في الموضوع، ولولا أن من يثيرون هذا الجدل وتلك الدعوات المنفلتة عادوا يرددون هذه القضايا المصطنعة والتي تضرب في ثوابت الدين عمدًا وعدوانا، ما عدت للكتابة فيه، فالمواريث تنقسم إلى قسمين:

قسم محسوم لم يترك لنا شرعنا مجرد مدخل ضيق للاجتهاد فيه، وهي تلك الأنصبة الواردة في كتاب الله، حيث حدد نصيب الأبناء والآباء والأمهات والزوجات والأزواج، والإخوة والأخوات في الأحوال المختلفة، وهذا القسم أورده كتاب الله بطريقة القطع واليقين الدلالي الذي لا عمل لنا فيه إلا الشرح والبيان والإبلاغ للناس، وسيظهر ذلك عند استعراض الآيات الحاملة لهذا القسم من أحكام المواريث. وقسم آخر لم يحسم بالنصوص فاجتهد فيه سلفنا الصالح كالمسألة الحجرية التي اجتمع فيها الإخوة الأشقاء والإخوة لأم ولم يتبق للأخوة الأشقاء وهم عصبة نصيب، فأشركهم سيدنا عمر مع الإخوة لأم في الثلث المستحق لهم، وتخفيض نصيب الأم إذا اجتمعت مع الأب ولم تترك ابنتهما معهما إلا زوجها، وكذلك لو كان الميِّت ابنهما وترك زوجة، حيث جعلوا للأم ثلث الباقي بعد الزوج أو الزوجة؛ حتى لا تزيد نصيبا عن الأب أو تقترب منه، وهذا القسم الأخير لا بأس من الاجتهاد واختلاف الرأي فيه، أما ماورد في كتاب الله وهو آيات بينات كلها في سورة النساء وهي تحديداً الآيات : (11، 12، 176) فهذه الآيات فيها أنصبة مُقَدَّرَة ويسبق هذه الآيات الآية رقم (7) وهي وإن لم تتعرض لتفصيل الأنصبة لكن حسمت نوع استحقاقها وبيَّنت أن هذا التقسيم ملزم حاسم لا يقبل اجتهادا ولا تغيرا ولاتبديلا: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (النساء: 7) ويلاحظ أن الآية خُتِمَتْ بكلمة مفروضا، وسيتكرر ذكرها في الآيات الباقية، والفرض معناه اللغوي المقدار، وعلى المعنى اللغوي يكون المعني نصيبًا مقدَّرًا محددًا من الله، والمقدَّرُ والمحدَّدُ من الله لا يملك البشر تعديله، وفي الشرع الفرض أعلى الأحكام التكليفيَّة، وهو يطلق على كل ما طلبه شرعنا من المكلفين على سبيل الإلزام، ولم يترك لهم اختيارًا في تغييره أو تركه؛ كأركان الإسلام الخمسة، وعلى ذلك فعلى المعنى اللغوي و الشرعي لا تقبل الأنصبة المذكورة في الآيات تغييرًا ولا تعديلا، ولكن علينا الامتثال لها كما وردت منذ وردت إلى قيام الساعة؛ حيث لم يُربَطْ تنفيذُها بفترة زمنيَّة، ولا منطقة جغرافيَّة ولا حالات اجتماعيَّة، إلا على النحو الذي فصلته.
أما أول الآيات التي بها تقسيم مفصل بالأنصبة المستحقة فهي قوله تعالى:{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء: 11)، ويلاحظ أن الآية بعد ذكر الأنصبة حسب الحالات خُتِمَتْ بقوله: {فريضة} وقد سبق أنها على الاستخدامين اللغوي والشرعي حاسمة في الإلزام، ولم تترك مجالا للبحث ولا الاجتهاد، إلا إذا كان للفرض من المعاني ما لا نعرفه!.
ثم يأتي بعد ذلك قوله – تعالى-:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ . تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } (النساء: 12-14) فالآيات واضحات في الإلزامِ بالتقسيم على النحو المذكور وتوعُّدِ المخالفين بما لا قبل لهم من العذاب الأليم والمهين، وكأن الآيات تتوعد هؤلاء الذين يحاولون التلاعب في أحكام المواريث في عصرنا.
ثم تُخْتَمُ سورة النساء بآخر آيات المواريث وهي قوله تعالى-:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النساء: 176)، ويلاحظ أن الآية خُتِمَتْ بأن هذا البيان والتبيين للناس حتى لا يضلوا عن سبيله؛ ولذلك فأي محاولة للتدخل فيما حملته آيات المواريث هي من الضلال والإضلال بنص الآية، وإذا كانت الآيات قد نصت على أن الأنصبة مفروضة، وحذرت من التلاعب فيها، وتوعدت بأشد العذاب، وبيَّنت أن العدول عنها من الضلال عن سبيل الله، فلا أدري كيف يتجرأ هؤلاء على ترديد ما يقولون؟!
ثم إن من أعجب ما جاء به هؤلاء قولهم بأن قسمة الميراث حق وليس واجبًا، ولذا إذا تراضى المجتمع على تغيير هذه الأنصبة باستفتاء شعبي فلا مانع من تغييرها!

وحقيقة الأمر لم أسمع مثل هذا التدليس الواضح من قبل، فما ذكر من الآيات ينفي أن تكون قسمة المواريث من الحقوق بل بيَّنت أنه من الفرائض صراحة، وكأن القائل بذلك لا يعلم بأن الواجب من جهة هو حق من الوجه الآخر، ففرائض الإسلام من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، هي فرائض في جهتنا وهي حقوق بالنسبة إلى الله – عز وجل- يحاسبنا على تقصيرنا أو يغفر لنا، والديون في جهة المدين واجبة الأداء، وهي في جهة الدائن حق يمكنه أن يسقطه أو يتنازل عن بعضه أو يتمسك باسترداده كاملا، كما أن واجبات الزوج تجاه زوجته؛ كالنفقة، والعدل في حق الزوجة، حقوق يمكنها التنازل عن بعضها أو كلها، وحقها التمسك بها كاملة، وكذا واجبات الزوجة هي حقوق للزوج، والتعبير عن هذه الواجبات بأنها واجبات في الجهتين أو حقوق في جهتيها كلام ساقط لا يقوله طالب علم.
ولا شك أن الحقوق يمكن لصاحب الحق التنازل عنها أو عن بعضها ولكن لا يملك أحد أن يفرض عليه ذلك، وإذا كانت الأنصبة المذكورة للورثة من الفروض التي يجب التسليم بها، فإنها في حق الورثة حقوق يمكنهم التنازل عنها أو عن بعضها، ولكن غفل هؤلاء عن نقطة، أو تغافلوا بأن المتحكم في الحق هو صاحب الحق وحده، وليس لأحد أن يلزمه بالتنازل عن شيء لا باستفتاء ولا بقانون، فلم يقل أحد -إلا فاقد عقل وعلم- إن المجتمع لو توافق على إسقاط نصف ديون المدينين أو ربعها فإن هذا يكون ملزما للدائنين، ولم يقل أحد إن المجتمع لو توافق على تخفيف أو إسقاط الحقوق الزوجيَّة فإن الأحكام الموروثة والثابتة بنصوص شرعنا يمكن تغييرها.
فاتقوا الله في شرع الله. اللهم بلغت.

زر الذهاب إلى الأعلى