من الجامع الأزهر وفي ختام الاسبوع الدعوي.. أمين اللجنة العليا للدعوة: الهدف الأساسي من استقراء السيرة النبوية هو استلهام المعاني التي تقوَم مجتمعنا وتجعله متحضرًا ومتقدمًا
اختتمت اللجنة العُليا للدعوة بمجمع البحوث الإسلامية، مساء اليوم الخميس، فعاليات الأسبوع الدعوي الثامن بندوة، تحت عنوان: ” دروس الهجرة في واقعنا المعاصر”، تحدّث فيها فضيلة الأستاذ الدكتور ربيع الغفير، أستاذ اللغويات بجامعة الأزهر، وفضيلة الدكتور حسن يحيى، الأمين العام المساعد للجنة العليا لشؤون الدعوة، وفضيلة الدكتور أبو اليزيد سلامة، مدير عام شؤون القرآن بالأزهر الشريف، وأدار الندوة فضيلة الشيخ يوسف المنسي، عضو الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة.
افتتح فضيلة الدكتور حسن يحيى الندوة بالتأكيد على الأهمية القصوى للاستفادة من السيرة النبوية المطهرة ودروسها في كل جوانب حياتنا المعاصرة، لأن الهدف الأساسي من استقراء السيرة النبوية المطهرة هو استلهام المعاني الراقية المناسبة لحياتنا منها، تلك المعاني التي تقوّم مجتمعنا وتحافظ على استقراره وتماسكه، وتجعل منه مجتمعًا متحضرًا ومتقدمًا، كما أن استقراء السيرة النبوية المطهرة يقربنا من الهدي النبوي الشريف، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات، كما أن استقراء أحداث السيرة النبوية المطهرة، بفهم ووعي، يمكننا من معايشة حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمق، والاستفادة منها، ويساعدنا في تطبيق سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمليًا في كل شيء في حياتنا.
من جانبه أوضح فضيلة الدكتور أبو اليزيد سلامة أن آية “ثاني اثنين إذ هما في الغار” هي دليل على لحظة فارقة عاشها سيدنا أبو بكر الصديق بكل وجدانه، في تلك اللحظات العصيبة داخل الغار، حيث كاد القلب ينخلع والفؤاد يضطرب من شدة الخوف والقلق، جاء صوت النبي صلى الله عليه وسلم مطمئنًا له: “لا تحزن إن الله معنا”، هذه الكلمات النبوية العظيمة لم تكن مجرد مواساة، بل كانت تجسيدًا للثقة المطلقة بالله، والتي بثت الطمأنينة والسكينة في قلب أبي بكر، لقد تحولت لحظة الضعف البشري إلى قوة إيمانية لا تتزعزع، هذا المعنى العميق هو ما نحتاج أن نبثه في الأمة بأكملها في مواجهة التحديات الراهنة، فمهما اشتدت الصعاب، يجب أن نتمسك بالثقة بأن الله معنا، ولكن مع ذلك، علينا أن نؤدي ما علينا تجاه الله سبحانه وتعالى من سعي وعمل.
وبين فضيلة الدكتور أبو اليزيد سلامة أن الهجرة النبوية تقدم لنا درسًا عظيمًا في كيفية الموازنة بين القلب والعقل، فعلى الرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب مكة بكل وجدانه كونها أحب بلاد الله إليه، إلا أن عقله أشار إلى أن هذه الأرض في تلك اللحظة لم تكن مناسبة للدعوة، في المقابل، كانت هناك أرض أنسب لنشر رسالة الإسلام، هذه المرحلة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم تعلمنا كيف ينتقل الإنسان من التردد إلى حسم القرار، مهما كان ذلك صعبًا على النفس، مشيرًا إلى أن قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: “لو هلكت أنت يا رسول الله لهلكت الأمة” هو دليل على إعلاء المصلحة العامة وتقديمها على المصلحة الشخصية، وهو مبدأ أساسي ينبغي أن نسترشد به في حياتنا.
وأكد فضيلة الدكتور أبو اليزيد سلامة أن رحلة الهجرة تقدم دروسًا عميقة في الثقة بشبابنا وتمكينهم لأخذ زمام المبادرة، وأهمية غرس القدرة فيهم على التمسك بأخلاقهم وقيمهم مهما كانت الظروف، ومهما تعرضوا لتحديات، وقد تجلى ذلك بوضوح في شباب الهجرة النبوية، أبرز مثال على ذلك هو سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، الذي بقي بشجاعة في مكان الرسول صلى الله عليه وسلم ليرد الأمانات إلى أصحابها، فقد فعل ذلك على الرغم مما لقيه من نكران وتعذيب من أولئك الناس أنفسهم، ويؤكد هذا الفعل النبيل من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المبدأ الخالد بأن الأخلاق باقية وهي أساس الحياة السعيدة، وقد شكل هذا الدرس على وجه الخصوص شخصية سيدنا علي كرم الله وجهة بشكل عميق، مما جعله نموذجًا فريدًا في السلوك الأخلاقي، وعلاوة على ذلك، فإن الشجاعة التي تحلى بها عندما بقي في مكان سيدنا رسول الله ظلت أحد مناقبه طيلة حياته.
وخلال كلمته، شدد فضيلة الدكتور ربيع الغفير على أهمية استلهام معاني الهجرة النبوية لمواجهة تحديات العصر، موضحًا أن الهجرة ليست مجرد حدث تاريخي عابر، بل هي مدرسة متكاملة لبناء مجتمع قوي ومتماسك، فهي تعلي من قيم التعاضد والتكافل بين أفراد المجتمع، وترسخ مبادئ التخطيط السليم واتخاذ القرارات الرشيدة في أوقات الشدائد والأزمات، وتلهم الأمة بالقدرة على التكيف مع المتغيرات التي تطرأ عليها في أي وقت، كما أن أحداث الهجرة النبوية تلهمنا تحويل التحديات إلى فرص للنمو والازدهار، لهذا تشكلت دولة الإسلام بعد الهجرة في قوة وتحضر كنتاج لما صنعته هذه الرحلة العظيمة، فقد علمت المسلمين الثبات والعزيمة والمثابرة، مشيرًا إلى إشادة الغرب بالعظمة التي صنعها رسولنا الكريم صلى الله علهي وسلم، مستشهدًا بمقولة المفكر الإنجليزي الشهير جورج برنارد شو: “ما أحوج العالم اليوم إلى رجل مثل النبي محمد ليحل مشاكل العالم”.
وأشار الدكتور الغفير إلى أن الجيل الأول من المسلمين خضع لاختبارات إلهية متعددة، ليصبحوا مؤهلين لحمل رسالة الإسلام إلى شتى بقاع الأرض، فكان أول هذه الاختبارات رحلة الإسراء والمعراج، بما حملته من معجزة عظيمة وثبات عميق على التصديق، ثم جاء الاختبار الثاني وهو الهجرة المباركة، التي تطلبت تضحية كبرى بترك الوطن والأهل، وما في ذلك من ألم على النفس لفراق المكان الذي نشأ فيه الإنسان. تلا ذلك الاختبار الثالث بتحويل القبلة، الذي دل على مدى الثبات وعدم التزعزع عن أمر الله تعالى، وأخيرًا، جاء الاختبار الرابع متمثلًا في غزوة بدر بالعام الثاني للهجرة، حيث بذل المسلمون النفس والمال دليلًا على صدق إيمانهم.
وأوضح فضيلة الدكتور ربيع الغفير أن قيادة النبي صلى الله عليه وسلم للأمة خلال رحلة الهجرة المباركة تُعد نموذجًا يحتذى في حسن الإدارة وتدبير الأمور، هذه القيادة الحكيمة هي ما دفع الصحابة رضوان الله عليهم إلى التضحية بأنفسهم قبل أموالهم في سبيل نصرة الدين الإسلامي، مستشهدًا بموقف سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتضحيته بنفسه في سبيل حماية النبي ﷺ، معتبرًا هذه العلاقة بينهما نموذجًا يحتذى في الصداقة الحقيقية والحب في الله، فقد تجلت فيها قيمة الإيثار، التي تُعد من أعظم الفضائل في الإسلام، موضحًا أن الأزمات المتلاحقة التي يشهدها عالمنا المعاصر إنما تؤكد الحاجة الماسة إلى استلهام منهج النبوة في القيادة والإصلاح، كسبيل وحيد لتحقيق الاستقرار ومعالجة التحديات الراهنة.
من جانبه قال فضيلة الشيخ يوسف المنسي: إن القرآن الكريم حينما تناول قضية الهجرة النبوية، لم يقتصر تأثيرها على الفرد فحسب، بل امتد ليشمل المجتمع بأسره، وهو ما يجعلنا نفهم أهمية إشراك النبي صلى الله عليه وسلم للأفراد معه في هذه الرحلة المباركة، فالأفراد الذين خاضوا رحلة الهجرة مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أصبحوا بفضل هذه الرحلة مؤهلين ليصبحوا أمناء على المجتمع المسلم، هذا التأهيل العميق لهؤلاء الرجال الأجلاء هو الذي كان له الفضل الكبير في الحفاظ على استقرار الأمة وثباتها بعد وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.



