ميلادُ الرسولِ صَلى اللهُ عَليهِ وَسَلمَ ميلادُ نورٍ وبركةٍ.. بقلم الدكتور/ عبد الرحمن سرحان عضو المنظمة العالمية لـ”خريجي الأزهر”

الحمدُ للهِ القائلِ في مُحكَمِ التنزيلِ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عليهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه من خلقِه وخليلُه، خيرُ مَن صلَّى وصامَ، وبكى من خشيةِ ربِّه حينَ قام. القائلُ كما في حديثِ أبي قتادةَ الأنصاريِّ رضيَ اللهُ عنهُ: “ذاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ”.

فاللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ المختارِ وعلى آلِه وأصحابِه الأطهارِ الأخيارِ.

أيها المسلمون الكرام، لقد كان ميلادُ سيدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ميلادَ نورٍ وخيرٍ وبركةٍ.

هذا النورُ لم يكنْ معنويًّا فحسب، بل كان نورًا حسِّيًّا أضاءَ الآفاقَ وشاهدهُ أهلُ زمانِه. ففي ليلةِ مولدِه رأتْ أمُّه نورًا عرجَ منها أضاءَ لها قصورَ الشامِ، وذلك مصداقُ قولِه صلى الله عليه وسلم عن نفسِه: “أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى أَخِي عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهَا قُصُورَ الشَّامِ”.

وكما يقولُ الإمامُ ابنُ رجبٍ: “خروجُ هذا النورِ عندَ وضعهِ إشارةٌ إلى ما يجيءُ بهِ من النورِ الذي اهتدَى بهِ أهلُ الأرضِ، وأزالَ بهِ ظلمةَ الشركِ”، مصداقًا لقولِ اللهِ تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾، وقولِه عزَّ وجلَّ: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

ولم يقتصرْ إدراكُ هذا النورِ على أهلِ مكةَ، بل شاهدَهُ اليهودُ الذينَ كانوا ينتظرونَ خاتمَ الأنبياءِ، فها هو حسانُ بنُ ثابتٍ رضي الله عنه يقولُ: “إِذَا يَهُودِيٌّ بِيَثْرِبَ يَصْرُخُ ذَاتَ غَدَاةٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ. فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالُوا: وَيلك مالك؟ قَالَ: طَلَعَ نَجْمُ أَحْمَدَ الَّذِي وُلِدَ بِهِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ”.

أيها الإخوةُ المؤمنون،
لقد امتنَّ اللهُ تعالى على البشريةِ جمعاءَ ببعثةِ هذا النبيِّ الكريمِ، فقالَ سبحانَهُ: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾. وهكذا كان ميلادُه صلى الله عليه وسلم ميلادَ رحمةٍ وبركةٍ ونورٍ لهذه الأمةِ.

وفي هذا السياقِ، فإنَّ تجديدَ الاحتفالِ بمولدِ سيدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا حرجَ فيهِ شرعًا، بل هو أمرٌ قرآنيٌّ ومنهجٌ نبويٌّ، تظاهرتْ أدلةُ الكتابِ والسنةِ على مشروعيتِه وجوازِه:
أولًا: من القرآن الكريم:
قولُه تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾. وميلادُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم هو أعظمُ فضلٍ ورحمةٍ من اللهِ على البشريةِ، فهو عينُ الرحمةِ كما قالَ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.

قولُه تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾. وميلادُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هو من أعظمِ أيامِ اللهِ، فهو يومُ ميلادِ الرحمةِ والنورِ والهدايةِ، فالتذكيرُ بهِ والاحتفالُ بهِ يدخلُ ضمنَ هذا الأمرِ الإلهيِّ.

ثانيًا: من السنة النبوية:
صومُ يومِ الاثنين: لقد سنَّ لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم مشروعيةَ الاحتفالِ بالأيامِ العظيمةِ، ومنها يومُ مولدِه. فعندما سُئلَ عن صيامِ يومِ الاثنينِ قالَ: “ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ ـ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ”.

وهذا من أصرحِ الأدلةِ على مشروعيةِ الاحتفالِ بيومِ مولدِه.
صيامُ يومِ عاشوراء: لما قدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، ورأى اليهودَ يصومونَ يومَ عاشوراءَ احتفالًا بنجاةِ موسى عليه السلام، قالَ: “مَا هَذَا؟”. فقالوا: “هذا يومٌ صالحٌ، هذا يومٌ نجَّى اللهُ بني إسرائيلَ من عدوِّهم، فصامَهُ موسى”.

فقالَ: “فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ”. فصامَهُ، وأمرَ بصيامِه. وهذا دليلٌ آخرُ على مشروعيةِ الاحتفالِ بالأيامِ العظيمةِ.

عقيقةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن نفسِه: روى أنسٌ رضي الله عنه: “أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا بُعِثَ نَبِيًّا”.

وهذا دليلٌ على أنَّه صلى الله عليه وسلم قد احتفلَ بيومِ مولدِه، مما يؤكدُ مشروعيةَ هذا الاحتفالِ.

أيها المسلمون، إنَّ الاحتفالَ بمولدِ المصطفى صلى الله عليه وسلم يكونُ بكثرةِ الصلاةِ والسلامِ عليه، وبفعلِ الطاعاتِ والخيرِ، وتجنُّبِ المنكراتِ.

إنه فرصةٌ لتجديدِ العهدِ مع سيرتِه العطرةِ، والتمسكِ بخصالِه الشريفةِ.

اللهمَّ شفِّعْ فينا سيدَ الأنبياءِ والمرسلينَ، يا ربَّ العالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى