الهوية أزمةٌ أعمق من الهجرة
في عصر اهتزت فيه الثوابت وتلاشت الحدود الفاصلة بفعل عولمة متسارعة وسيولة ثقافية جارفة، لم يعد الإنسان محاطًا بالأسوار التقليدية الآمنة التي كانت تشكل هويته.
هنا، وفي قلب هذا التحول الحضاري، تبرز معضلة الهوية، لا كتحدٍّ عابر، بل كشرخ وجودي عميق يضرب بجذوره في وعي الفرد وضمير الجماعة.
وإذ تتصدر أزمات اللجوء والهجرة المشهد العالمي بصخبها المادي الملموس، فإنها غالبًا ما تحجب الداء الأعمق والأكثر صمتًا الذي ينهش استقرار المجتمعات من الداخل.
تعد مسألة الهوية من أخطر التحديات التي تواجه الأفراد والمجتمعات في الوقت الحالي، بل وقد تكون أكثر تعقيدًا وتأثيرًا من قضايا مثل اللجوء.
ففي زمن العولمة والانفتاح الثقافي، تبدو أزمة الهوية واحدةً من أخطر وأعمق الأزمات التي تواجه الإنسان المعاصر، والتي قد تفوق في آثارها وتداعياتها أزمات مثل الهجرة أو اللجوء.
فالهجرة، رغم ما تحمله من صعوبات اقتصادية واجتماعية، غالبًا ما تكون رد فعل لظروف خارجية، بينما أزمة الهوية تنبع من داخل الإنسان وتشكّل قلقًا وجوديًّا مستمرًّا.
ينطلق هذا المقال من فرضية أساسية مفادها أن تحدي الهويّة، بجذوره النفسية وتداعياته الحضارية، يمثل أزمة أكثر جذرية وشمولية من مجرد الانتقال الجغرافي.
فهي لا تنبثق من ظرف خارجي طارئ كالبحث عن أمان أو رزق، بل من تآكل داخلي للمعنى، ومن حالة من “اللا يقين” تجعل الإجابة على السؤال الأزلي “من أنا؟” مهمة شبه مستحيلة.
إنها المعركة الصامتة التي تهدد بتفريغ الانتماء من محتواه، وقيمة الوجود من جوهرها، تاركةً وراءها فراغًا مدمرًا للأفراد والأمم على حد سواء.
أبعد من جواز السفر والحدود لا يمكن اختزال الهوية في بطاقة تعريف أو انتماء جغرافي؛ إنها مركب معقد يتشكل من تراكمات ثقافية، وتاريخية، ودينية، وقيم مجتمعية. إنها الإطار الذي يمنح الفرد شعورًا بالاستمرارية والارتباط بالجماعة.
على النقيض، تمثل الهجرة غالبًا رد فعل لظروف خارجية قاهرة (اقتصادية، أمنية)، بينما تنشأ أزمة الهوية من الداخل حين يشعر الإنسان بالغربة في محيطه، سواء كان مُهاجرًا أم مقيمًا في وطنه، إنه الشقاق الذي يحدث بين الذات والعالم، والذي يحول الحياة إلى حالة من القلق المستمر.
وحين يهاجر الإنسان، يُجبر على التكيف مع ثقافة جديدة قد تتناقض مع خلفيته الثقافية والدينية، ما يولد صراعًا داخليًّا بين محاولة الاندماج والحفاظ على الذات.
وفي كثير من الحالات، يفقد المهاجرون الجدد شعورهم بالانتماء، لا إلى أوطانهم القديمة ولا إلى الجديدة، فيقعون في فراغ هوية قاتل.
ولكن ما يجب التنبه له، هو أن أزمة الهوية لا تقتصر على المهاجرين فقط، بل حتى من يعيشون في أوطانهم، قد يشعرون بالضياع في ظل تغيرات سريعة تطرأ على أنماط الحياة، والانبهار بثقافات دخيلة، وتراجع الهوية المحلية لصالح أنماط استهلاكية عالمية.
والهوية الجماعية ثلاثة أنواع؛ الأول: الهوية الوطنية القائمة على القومية، وهي ما نراه في الغرب.
الثاني: الهوية العرقية، حيث ينشأ التوتر بين الجماعات العرقية، كما هو الحال في صربيا والبوسنة والهرسك، وأحيانًا في أفغانستان.
الثالث: الهوية الأيديولوجية والدينية، كما هو الحال مع تنظيم داعش حيث لا تعترف الهوية بالعرقية أو القومية، بل هي عابرة للأعراق والأوطان والحدود.
وما يجعل أزمة الهوية أخطر من غيرها كالهجرة مثلًا، هو أنها غالبًا ما تكون صامتة، غير مرئية، ولا توجد إحصاءات دقيقة أو مؤشرات ملموسة لقياس تمزق الهوية، لكنها تنعكس في السلوك، في الاغتراب، في العنف، وفي الانطواء أو التطرف أحيانًا.
فالشباب الذي يشعر بفراغ الهوية قد يبحث عن بدائل تعطيه إحساسًا بالانتماء، حتى لو كانت عبر الانضمام إلى جماعات متطرفة أو تقليد أنماط غربية دون وعي أو نقد.
وهنا تتحول أزمة الهوية إلى خطر اجتماعي حقيقي.
ولا يمكن مواجهة أزمة الهوية إلا من خلال الوعي بها أولًا، ثم تعزيز الثقافة الوطنية واللغة والرموز المشتركة، دون الوقوع في فخ الانغلاق أو رفض الآخر.
فالهوية الصحّية هي تلك التي تتفاعل مع الآخر دون أن تذوب فيه، وتحتفظ بخصوصيتها دون أن تتقوقع على ذاتها.
ويعتبر التعليم، والإعلام، والأسرة، محاور أساسية في بناء هوية متوازنة.
كما يجب أن يشعر الإنسان أن له مكانًا في مجتمعه، وأن قيمه الأصيلة ليست عقبة أمام التقدم، بل هي جزء من قوته.
- وجهان للأزمة:
صراع المهاجر وضياع المقيم تتجلى أزمة الهوية بصورتين رئيسيتين:
صراع المهاجر:
عند الانتقال إلى بيئة ثقافية جديدة، يواجه المهاجر صراعًا داخليًّا حادًّا بين ضرورة الاندماج للبقاء، والرغبة في الحفاظ على جذوره الثقافية والدينية.
هذا الصراع غالبًا ما يوقعه في “فراغ هوياتي”، حيث لا يشعر بالانتماء الكامل لوطنه الأصلي الذي غادره، ولا لوطنه الجديد الذي لم يستوعبه بعد، ليصبح معلقًا بين عالمين.
ضياع المقيم: الخطأ الشائع هو حصر أزمة الهوية في فئة المهاجرين.
فالمقيمون في أوطانهم ليسوا بمنأى عن هذا الخطر. في ظل هيمنة العولمة، وتأثير الإعلام العابر للحدود، وانتشار الأنماط الاستهلاكية العالمية، تتآكل الهويات المحلية وتتراجع الخصوصيات الثقافية. يشعر الكثيرون، خاصة الشباب، بالضياع بين قيمهم الموروثة وبريق الثقافات الدخيلة، مما يخلق حالة من الاغتراب الداخلي.
- الخطر الصامت:
حين يتحول الفراغ إلى تطرف ما يجعل أزمة الهوية أشد خطورة من غيرها هو طبيعتها “الصامتة”.
لا توجد إحصاءات تقيس تمزق الهوية، ولكن آثارها تظهر جليًّا في سلوكيات مدمرة مثل: الاغتراب الاجتماعي، والعنف، والانطواء، أو البحث عن انتماءات بديلة، وهنا يكمن الخطر الأكبر، فالشاب الذي يعاني من فراغ هوياتي يصبح فريسة سهلة للتنظيمات المتطرفة التي تقدم له هوية زائفة وشعورًا بالانتماء والقوة. هذا الفراغ هو الوقود الذي يغذي التطرف، حيث تتحول الأزمة الفردية إلى تهديد أمني ومجتمعي.
- من النظرية إلى الواقع:
حالة مجتمعات الصراع (أفغانستان نموذجًا) تتجسد أزمة الهوية في المجتمعات التي مزقتها الصراعات الطويلة، كما في أفغانستان.
فالصراعات المستمرة والنزوح القسري لا يدمران البنية التحتية فحسب، بل يقضيان على الهوية الوطنية نفسها. حيث يتلاشى الشعور بالانتماء للوطن لصالح ولاءات أضيق (قبلية، عرقية)، وتصبح الهوية الثقافية والدينية نفسها محل نزاع، مما يؤدى إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وتصاعد العنف، وانهيار المنظومة القيمية التي تحمي المجتمع.
وقد أظهر تقرير “مؤشر السلام العالمي” لعام 2025، الصادر عن “معهد الاقتصاد والسلام الدولي”، صورةً قاتمة للوضع في أفغانستان، حيث استقرت في المرتبة 158 من أصل 163 دولة، لتُصنف بذلك ضمن أكثر دول العالم اضطرابًا واهتزازًا.
ورغم تحسن طفيف في ترتيبها بدرجتين عن العام الماضي، فإنها لا تزال تحتل المرتبة الخامسة عالميًّا في انعدام السلام.
كما كشف التقرير عن مفارقة مؤلمة؛ فبالرغم من تراجع حدة الصراعات، فإن هشاشة منظومة الحوكمة واستفحال الأزمات الإنسانية قد أسفرا عن تفاقم الاضطرابات.
ولم يقتصر أثر ذلك على الوضع الاجتماعي فحسب، بل امتد ليُحدث نزيفًا اقتصاديًّا حادًّا، حيث أدى العنف وانعدام الأمن إلى خسارة أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وفي سياق متصل، سلط المؤشر الضوء على واحدة من أعمق الأزمات الإنسانية، حيث كشف عن نزوح أكثر من 122 مليون شخص حول العالم، وتعود نسبة كبيرة من هؤلاء المشردين إلى أفغانستان، التي تُعدّ منذ عام 2008 من أكبر ضحايا العنف وانعدام الاستقرار([1]).
وأضافت اليونيسف أن التطورات السياسية في باكستان وإيران أدت إلى تفاقم أزمة عودة اللاجئين الأفغان، مؤكدة أنه في المدة من 1 يناير إلى 29 يونيو، عاد أكثر من 714 ألف لاجئ من إيران، 99% منهم بدون وثائق و70% منهم أجبروا على العودة ([2]).
ومن ناحية أخرى أفادت وسائل إعلام دولية بأن طرد اللاجئين الأفغان من أوروبا والدول المجاورة أدى إلى عواقب إنسانية كارثية وتفاقم ظروف الجوع والفقر في أفغانستان.
وأفاد موقع جلوبال فويسز، السبت 13 سبتمبر 2025، أن إيران وباكستان وعددًا من الدول الأوروبية كثفت عملية الإعادة القسرية للأفغان، وهي الخطوة التي قوبلت بانتقادات شديدة من منظمات حقوق الإنسان.
وبناء على هذا التقرير، رحّلت إيران أكثر من مليون ونصف المليون لاجئ أفغاني هذا العام وحده، ومن المقرر أن يعود ما يقرب من أربعة ملايين شخص إلى أفغانستان بحلول نهاية عام 2025.
كما سرعت باكستان عملية طرد الأفغان منذ أبريل؛ حيث رحلت أكثر من مليون شخص، بمن فيهم النساء والأطفال، إلى أفغانستان عبر معبري: تورخام، وسبين بولداك.
وشددت ألمانيا وخمس دول أخرى في الاتحاد الأوروبي قواعد اللجوء، واستأنفت ترحيل الأفغان إلى وطنهم. وفي الوقت نفسه، حذرت جماعات حقوق الإنسان من أن العودة القسرية للاجئين إلى ظروف الفقر المدقع وانعدام الأمن والتشرد من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية والاقتصادية في أفغانستان([3]).
وقد أكدت هيئة اليونيسيف في تصريحات لها عدة مرات على ضرورة أن تكون عودة اللاجئين الأفغان طوعية وآمنة وكريمة([4]).
نحو بناء هوية متوازنة يتضح مما سبق أن الهجرة قد تكون تحديًا خارجيًّا يمكن التعامل معه بسياسات وإجراءات، لكن أزمة الهوية هي معركة داخلية مصيرية. إن تجاهل هذه الأزمة يترك الباب مفتوحًا أمام تفكك المجتمعات من الداخل.
وتكمن الحلول في مسارات متكاملة:
الوعي أولًا: الاعتراف بوجود الأزمة هو الخطوة الأولى نحو مواجهتها بجدية على المستويات كافة.
تفعيل دور المؤسسات: يقع على عاتق التعليم والإعلام والأسرة الدور المحوري في بناء هوية وطنية متوازنة، تعتز بخصوصيتها ومنفتحة على العالم.
تعزيز الانتماء الحقيقي: يجب أن يشعر الفرد بأن له مكانة في مجتمعه، وأن قيمه الأصيلة ليست عائقًا أمام التقدم، بل هي مصدر قوة.
في النهاية، الهويّة الصحية ليست تلك المنغلقة على ذاتها، ولا تلك الذائبة في الآخر، بل هي التي تمتلك من الثقة ما يمكِّنها من التفاعل مع العالم دون أن تفقد جذورها، وهي البوصلة التي تعطي للحياة معنى، وللإنسان قيمة، وللأوطان مستقبلًا آمنًا ومستقرًّا.