الشيخ محمود سليمان يكتب: بين القصص القرآني والقصص البشرى
بقلم للشيخ محمود سليمان عضو المنظمة العالمية لرابطة خريجي الأزهر بمحافظة مطروح
هناك قصص قرآنية كثيرة فى القرآن الكريم تعطينا النموذج الأمثل للفارق الكبير بين القصص البشرية والقصص القرآنية،
-فالقصة البشرية تبنى على أوهام وخيالات وافتراضات بخلاف القصة القرآنية فهى تبنى على تتبع أخبار وآثار حقيقية وقعت وأبطالها حقيقيون وليسوا افتراضيون .
-ثم إن القصة القرآنية تكون متقنه ودقيقة فى معلوماتها لا يمكن أبدا أن يداخلها شئ،ولو كلمة،من الزيف والكذب،لأن المخبر عنها هو الله الخالق الذى رأى وسمع وشهد وكفى بالله شهيدا ،لذلك فخبره حق وقوله صدق{ولا ينبئك مثل خبير} ..{ومن أصدق من الله قيلا}؟ وقد قال فى معرض الرد على الذين شككوا فى قصص سيدنا رسول الله التى يتلقاها من الله،فى قصة السيدة مريم:{وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} فما حضر رسول الله قصتها وما جرى من أخبارها، ومعلوم قطعا أن رسول الله لم يختلف إلى معلم ولم يتعلم على يد فيلسوف وهم يعلمون يقينا ذلك فمن أين جاء بهذه الأخبار الغيبية التى لم يطلع عليها إلا من طريق ربه الذى أرسله؟ ثم لو كان رسول الله يلقى هذه القصص من خياله وتأليفه أكان المنطق يقتضى إفتخاره بذلك أم ينسبه إلى غيره؟ إن قوانين الدول فى عصرنا الحديث سنت قوانين تكفل للمؤلفين ما يسمى بحق المؤلف بحيث إذا سرق أحد كلام المؤلف دون نسبته إليه قاضاه المؤلف، وإن أى كاتب او روائي يكون حريصا أشد ما يكون الحرص على نسبة مؤلفه إليه دون غيره لأنه جزء من عقله ووجدانه ..فلو كان رسول الله هو مؤلف هذا القصص لكان بمقتضى المنطق البشرى يجتهد فى نسبته إلى نفسه وعقله ،وإذا أضفنا إلى ذلك وصفه وتلقيبه من قومه قبل البعثة بالصادق الأمين لقطعنا بالقول أن هذا القصص من الله العظيم أوحاه إلى رسوله الكريم ونحن على ذلك من الشاهدين .
-وإن القصص القرآني لا يحكيه ربنا لنا على النحو الذى تحكى به القصص البشرية .. بحيث تحكى أحداثها تباعا ومجريات الأمور فيها ومواقف أبطالها ،وإنما نستبصر من القصة القرآنية تناولها لقضية عامة مثل قضية البعث مثلا فتحكى أجزاء القصة منجمة أو مجموعة مع ما يترتب عليها من الفوائد والمواعظ والعبر،وتكون إما طويلة مفردة فى سورة وحدها كقصة يوسف أو مريم أو قصيرة بين ثنايا آيات إحدى السور ،،وقد تكون واحدة أو متعددة لتأكيد قضية واحدة ،وقد تكون فى نفس السياق أو فى سياق آخر بعيد، ويذكر الله أحيانا أبطال القصة بأسمآءهم ولا يذكرهم بأسماءهم بعض الأحيان الأخرة..فالمغزى من القصة إنما هو العظة والاعتبار لينتفع الإنسان بما يسمعه من قصص حقيقية تدفعه إلى تغيير نفسه إلى الأصلح والأفضل.
*قضية البعث ونموذج من القصص القرآنى لتأكيدها:
-فى الآية ٢٥٨،و٢٥٩،و٢٦٠ من سورة البقرة تناولت الآيات الكريمة قصص قرآنية قصيرة ،كل واحدة منها تؤكد قضية البعث تأكيدا واضحا.
فالقصة الأولى هى قصة الخليل إبراهيم مع النمرود،أكد فيها الخليل عليه السلام أن ربه سبحانه وتعالى وحده القادر على الإحياء والإماتة،وهذا لا مجال للجدال فيه ،لأنه حق واضح ولم يزعم بشر من البشر لديه شئ من المنطق والعقل والإنصاف أن أحدا من المخلوقين يحى ويميت ..{إذ قال إبراهيم ربى الذى يحى ويميت} كان القياس المنطقى يقتضي أن يقول النمرود مثلا فى تبرير كفره بادعاء إبراهيم:أنا لا أرى ربك أصلا ،فكيف أؤمن بأنه يحى ويميت؟ فالملحدون المعاصرون كانوا أكثر إنصافا من النمرود، وكان بإمكانه أن يقول كما قال غيره من المنكرين للبعث أيام رسول الله:{وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} قال البغوى فى تفسيره:( وما يهلكنا إلا الدهر ) أي وما يفنينا إلا مر الزمان وطول العمر واختلاف الليل والنهار . فكان بإمكان النمرود أن ينكر البعث باستدلال الحس ،ولو فعلها لخاطبه الخليل إبراهيم خطابا منطقيا يرد ما فى نفسه من الشبهات ،إن قصد إلى الحق والحقيقة بصدق،فيخاطبه مثلا فى الافتراض الأول الذى افترضناه من كونه لا يرى الله أصلا فكيف يؤمن بأنه يحى ويميت ،أو يخاطبه فى كون الدهر هو الذى يهلكهم فعلا أم أن وراءه رب قادر وإله قاهر {فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة} . لكن النمرود ضرب بالمنطق عرض الحائط وركل بقدميه بدهيات العقل والحق فقال:{ أنا أحي وأمييت} ولم يجادله إبراهيم في هذه القضية لأنه أدرك بهذا الرد أن هذا الطاغية تعمد الانحراف عن الحق وأنه يجادل لأجل الجدال والانتصار لنفسه لا للوصول للحق فانتقل الخليل إلى حجة أخرى قاطعة فى الدلالة على أن هذا النمرود عبد وأن هناك رب عظيم غيره يحى ويميت فنزع إبراهيم إلى شئ يعجز النمرود كل العجز أنه قادر عليه وهو تحريك الشمس وتغيير نظام الكون ،وهو شئ فوق قدرة أى مخلوق ،فقطع دابر زعمه الباطل والحمد لله رب العالمين .
قال الإمام البغوى فى تفسيره:{قال أكثر المفسرين : دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فجعل ترك القتل إحياء له فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى لا عجزا فإن حجته كانت لازمة لأنه أراد بالإحياء إحياء الميت فكان له أن يقول : فأحي من أمت إن كنت صادقا فانتقل إلى حجة أخرى أوضح من الأولى }. انتهى
فهنا فى هذه القصة القصيرة حكى الله طرفا من قصة الخليل مع النمرود تخص قضية البعث من إحدى الزوايا ،وهى تبحث فى أن الله هو الذى يحي ويميت وهو القادر وحده على البعث والإعادة .
وفى القصة التالية لها يذكر الله قصة أخرى أكثر وضوحا للدلالة على البعث والإعادة وهى قصة عزير أو أرميا(الخضر) عليه السلام كما قال المفسرون..ذلك النبى او الرجل الصالح الذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها اى مهدمة،
مخربة،سقف بيوتها ساقطة لما مر وحال القرية كذلك (قال أنى يحى هذه الله بعد موتها) قال هذا تعجبا،،فاجرى الله معه فى نفسه وفى حماره وطعامه بما يثبت قدرة الله على إحياء الموتى فأماته مائة عام ثم بعثه وسأله كم لبيت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام ،ودلل له على ذلك بدليل مادى مشاهد ..فقال له: وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها فلما تبين له قال اعلم أن الله على كل شئ قدير … فهذه قصة ثانية تؤكد قضية البعث أيضا .
ثم يذكر القرآن بعدهما قصة ثالثة تؤكد قضية البعث أيضا؛وهى سؤال إبراهيم لربه كيف تحي الموتى؟
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
فهذه القصص كلها لها هدف وغاية ،وتؤكد على قضية عقائدية خطيرة ،نسجت أحداثها من الحقيقة والواقع ودنيا الناس وليس من الخيالات والافتراضات كما هو حال القصص والروايات البشرية ،ولم تسرد سردها وإنما بأسلوب خاص يستلهم منه القارئ والمستمع العبرة والعظة كما لم تذكر القصة القرآنية حشوا لا فائدة منه ،وإنما قص على قدر القضية المطروحة . فهذا هو القصص القرآني الذى لا يشبه القصص البشرى أبدا .