ماذا .. لو غابَ الأزهــر؟

الأستاذ الدكتور محمد عبدالفضيل القوصى

عضو هيئة كبار العلماء- نائب رئيس مجلس إدارة منظمة خريجى الأزهر

أكاد أرى- رَأْيَ العَيْن- نُذُرَ ما يحمله المستقبل من العواقب، التى ستؤول إليها مجريات الأحداث، لو استمرت وتيرة تلك الموجات العارمة الصاخبة التى تدق أبواب الأزهر الشريف فى أيامنا هذه فى عنف غير مسبوق، تَجَاوَز مرحلة النقد الهادف المتبصر لهجةً ولغةً ومقصدًا: إلى محاولات شَرِسة مهتاجة لإهدار موقعه العلمى والفكرى المكين، سعيًا إلى إزاحته أو زَحْزَحَتِه عن مكانته التاريخية العتيدة، لتخلو الساحة آنئذ لشراذم من المتربِّصين الذين يَتَحَّرقون شوقًا، برغم ما بينهم من تناقض فى المواقع والرُّؤَى إلى «غيابه» ليتلقف كل منهم جزءًا من نهجه ومكانته، يَزْدَرِدها على مهل، ثم ينفث بعد ذلك «الغياب» سمومه الناقعات، حين تخلو له الساحة، وحين يحين القِطاف!

إنك سترى جزءًا من «عقل» الأمة- إن حدث ذلك «الغياب» أو شىءُ منه- وقد أمسى نهبًا مستباحًا لشراذم من الناعقين بخلط الدين خلطًا شائهًا بلُعبة السلطة، وأحابيل السياسة، ليستبدلوا بعلم الأزهر الرصين: مفاهيمَهم ومقولاتهم المظلمة عن تكفير المجتمع، وجاهلية القرن العشرين، التى يدعى قائلهم بصددها: «أنَّا نعيش فى جاهلية كالجاهلية التى أزاحها الإسلام أو أشد»، ثم ما يتمخض عن ذلك من شيوع العنف والإرهاب بشتى صوره، ولن تجد- حين «يغيب» الأزهر- من ينتهض معتضدًا بنصوص القرآن والسُنَّة: مدافعًا عن نقاء الإيمان الحق، وصفاء الإسلام الصحيح، ولن تجد أيضًا- حين «يغيب» الأزهر- من يقف كالطود الشامخ مدافعًا عن «سماحة» الإسلام وبُعْده عن الغلوِّ، ويجلو عن صفحته البيضاء ما أصابها من جَرَّاء التهالك على شهوة السلطة وآرائك السلطان وإن سُفِكَت فى سبيلهما الدماء، وتقطَّعت الأشلاء، وتمزقت الأوطان!

إنك سترى جزءًا ثانيًا من «عقل الأمة» وقد «احتلَّتْه» شراذم من أولئك الذين يعمدون إلى الآيات القرآنية الكريمة التى نزلت فى أحكام «الكفار ومعاملتهم»، فإذ بهم «يُنْزلونها» ويطبقونها فى حَرْفِيِّة غشوم وفى تعميم مغلوط على المسلمين فيستبيحون بذلك الدماء والأشلاء، فتترعرع بذلك بذور الإرهاب، وحصاده المرَّ، كما لحظ ذلك مبكرًا الصحابى الجليل عبدالله بن عباس، ورأى فيه بألمعية نافذة: مبعثًا للفتن المَدْلَهّمة فى مختلف عصور الإسلام، ولَنَ تجد حينئذ- فى «غياب» الأزهر- من ينتهض لخطورة قضية «عمومات النصوص» سوى مصادره الرصينة التى فَنِيَت فيها أعمار، وذَبُلت أبصار، حيث الفهم الصحيح الرصين لتلك القضية الأصولية فى أدق تفاصيلها ومنحنياتها، قبولاً وردًا، وتعديلاً وضبطًا.

إنك سترى جزءًا ثالثًا من عقل الأمة وقد «احتلَّتْه» شراذم من أولئك الذين يدَّعون الانتماء إلى السلف الصالح، يَبُثُّون فى الأمة تحت تلك اللافتة: حرفية الفهم وضيق الرؤية، وشَكْلانية التصوّر، فى استغلال قاحلٍ لنزعة التدين المغروسة فى أعماق الأعماق من قلوب المصريين، فإذا بالإسلام وقد استحال لديهم إلى «أشكال جوفاء»، ومظاهر جافة، تناقض ما تتمتع به الشخصية المصرية من الثراء الروحى، والتنوع الوجدانى، والعمق النفسى الذى يتجاوز المظهر إلى المخبر، والسطوح إلى الأعماق، ولن تجد حينئذ- فى «غياب» الأزهر- مَن ينتهض لهذه الدعوات، ويعيد إلى حنايا الشخصية المسلمة ذلك الثراء الوجدانى، والعمق الروحى.

إنك سترى جزءًا رابعًا من عقل الأمة وقد احتلَّتْه أصوات أخرى تعتنق أفكارًا وافدة: ترى فى العقل «نقيضًا» للنقل، وأنه «لا خير للأمة سوى أن تعتصم بالعقل، وتنبذ النقل، وتقرر كما يقول أحد سَدَنتِها فى صراحة جازمة إن نهضة الأمة لا يمكن أن تتحقق إلا بالخروج من ظلامة النقل إلى استنارة العقل»، كما يردف: «إنه لا محل للتنوير إلا بإحلال مبادئ العقلانية محل الأصولية النقلية»، بل يضيف قائل آخر: إن الخير كل الخير هو النظرة التى تقوم على إحلال مبادئ العقلانية محل الاصولية النقلية، فماذا يكون الحال لو غاب الأزهر عن الساحة، وترك تلك العقلانية المطلقة السراح دون ضبط مسيرتها بمعايير «النقل»، والتمسّك بجَمع اليدين «بميزان الاعتدال» بين العقل والنقل فى توازن متبصّر يتحقق به التوازن الفعّال بين النقل والعقل، والإيمان والفكر، ومن ثمّ بين الآلهيات والإنسانيات!

وفى هذا الصدد انبعثت من مرقدها قضية «تاريخية القرآن الكريم»، تلك القضية التى تتخذ من أسباب النزول: سُلَّمًا للعبث فى «مطلقية القرآن وشموله»؛ لأن أسباب النزول فى هذا الاتجاه الشَّائِه تمثل مدخلاً بشريًا لإثبات «نسبية» القرآن، وبهذا الفهم الملتبس يتم إقحام «الأفهام البشرية» الرجراجة التى لا تفتأ عن التبدّل والتغيّر على القضايا والأحكام القرآنية الأزلية الثابتة.

إنك لن تجد- حين «يغيب» الأزهر- من يتصدى لهذه «الزئبقية» سوى علوم الأزهر التى تحصُّن المبتدئ فيها بالأساس العقلى والمنطقى المكين الذى يَتَشرَّبه الطالب الأزهرى منذ نعومة أظفاره فى إدراك جليّ بأن أسباب النزول: إنما هى «مناسبات» لنزول أحكام الكتاب الحكيم وقضاياه، وليست عاملاً فاعلاً فيه، ولا صانعًا له، ولا مؤثرًا فى أزليته ودوامه وخلوده.

إنك سترى جزءًا خامسًا من عقل الأمة وقد احتلَّتْه فئات أخرى يَلِذُّ لها أن تبتعث أحداث «الفتنة الكبرى» من نومها، وتوقظها من رقدتها، فتثير الضغائن التى قَبَعت، والإِحَن التى هَجَعت، فتضيف إلى أسباب افتراق الأمة وانفراط عقدها: أسبابًا أخرى توقد ضرامها، وتشعل جذوتها، فماذا يكون الحال لو غاب الأزهر وخَفَتَ صوته الذى رفع لواء «التقريب بين المذاهب» فى تعقِّل رشيد يجمع بين تعظيم الصحابة- رضوان الله عليهم جميعًا- وبين كَفِّ الألسنة عما شجر بينهم، ليعود للأمة تماسكها واجتماعها على كلمة سواء؟

إنك سترى جزءًا سادسًا يتمثل فى «مكانة» مصر وقد انْتُزع منها «الأزهر» بعمق موضعه الرصين فى العالم الإسلامى، ذلك العالم الذى كان ولا يزال يعتز بمصر بلد الأزهر؛ حيث يلجأ الظامئون فى أنحاء المعمورة بحثًا عن الاعتدال والوسطية، والاتزان الفكرى والعقدى والروحى.

فهل يتفطَّنُ هؤلاء وأولئك إلى هذه الأخطار المحدقة التى توشك أن تحيق بنا جميعًا لو «غاب الأزهر» مكانة وعلمًا وفكرًا عن العالم الإسلامى الذى يجد فيه الملجأ والملاذ، والمرجع والمآب، فياليت قومى يعلمون.

زر الذهاب إلى الأعلى