عِنْدَما يَنْعى الألِفُ الضّاد
بقلم أ.د. عبد الرحمن فوده
وكيل كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر للدراسات العليا والبحوث
ضَرَبْتُ أكْبادَ الكَلِمِ وبَذَلْتُ قُصاراي وسَبَحْتُ في مَسارِبِ البَيانِ وثَنايا الحَصافَةِ بِبَصيرَةٍ نفّاذَة وفِطْنَةٍ أخّاذَة وبَلَغْتُ، بِشِقِّ الأنْفُسِ، شآبيبَ الرَّوْعَةِ وشِعابَ السِّحْرِ الصَّدفية وعَرَفْتُ أنَّ لُغَةَ “الضاد” نَبْعٌ صافٍ ومَعينٌ كافٍ لِمَنْ أرادَ نهلًا مِن فَيْضِ سُهولِها وجودِ شلالِها. فَهْيَ لُغَةٌ لَوْ أوتيَتْ لأحَدٍ جَعَلَتْهُ في قِلاعٍ مِن البَديعِ مَنيعَةٍ وإيوانٍ مِن الفَصاحَةِ شاهِقٍ، عَلى أساسٍ مِن الإبْداعِ قَدْ قامَ وعَلى قواعِد مِن التميُّز قد شُيّدَ واستقامَ.
والكُلُّ مَدْعو لأن يكونَ بناصيتِها مُمْسِكًا وأن يكونَ في بِحارِ جَمالِها غارِقًا ولا يَأْلو جَهْدًا في أن يَتَدَثَّرَ بإزارِ إتقانِها ويَتَزَمَّلَ بجِلبابِ بَديعِها ويَلتَحِفَ بِغِطاءِ رَحيقِها في بُسْتانٍ زَيَّنَتهُ زُهورُها.
وُكَمْ حَمَلَت جِبالُ هَذِهِ اللُّغَة في باطِنِها وأعْماقِها مِن المَعاني والمَفاهيمِ التي يَقِفُ أمامَها، في السَّفْحِ، المَرْءُ فاغِرًا فاه ومُشْرَئِبًّا يَتَطَلَّعُ ويَنْظُرُ شَزْرًا لِما سَمِعَ وَيْكأنَّهُ صورَةٌ أو لَوْحَةٌ رُسِمَت، فَتَخَطَفُ الأبْصارَ، بأنْغامٍ وألْحانٍ تُطَرَبُ منها المَسامِعُ والآذان. وما الْتَمَسَتْ مِنّا اللُّغَةُ سوى أن نُقيمَ لَها وَزْنًا ونَأْبَهَ لِقَدْرِها ونَحْفَظَ خَريطَتَها بِعَقْلٍ وَلُبٍّ لِتَبْقى في أمْنٍ وأمانٍ مِنْ عَبَثٍ أو فِرْيَةٍ أو بُهْتانٍ أوتيهٍ في دَرْبِ النِّسْيانِ.
فاللُّغَةُ وَطَنٌ يَحِنُّ إلَيْنا ويَنبَغي أن نَحِنَّ إلَيْهِ، ومَهْما ابْتَغَيْنا في غَيْرِهِ وِجْهَةً، فَلَنْ نَنْعَم بِراحَةٍ وانْتِماء. فَتُرابُ لُغَتِنا هوَ الدِّثارُ الذي نَسْتَدْفِئُ بِهِ مِن بَرْدِ الرَّكاكَةِ القارِس.
وما تُعانيه أبْصارُنا ومَسامِعُنا وقَراطيسُنا اليومَ مِن اسْتِفراغٍ لُغَويٍّ مَخْضوبٍ بِخَطايا وذنوبٍ إمْلائيَّةٍ كَفيلَة بِأنْ تَسومُنا سوءَ عَذابِ الاشْمِئْزازِ والتَّقَزُّزِ، لَهْوَ خَيْرُ الأدِلَّةِ عَلى أنَّ لُغَتَنا الجَميلَةَ تَحْتَضِرُ مِنْ أفاعيلِ بَعْضِ أهْلِها.
وها هوَ الألِف قَدْ حَمَلَ جُثْمانَ الضّاد عَلى أعْناقِهِ في نَعْشِ الوَداعِ وذَهَبَ ليُسْكِنَهُ ويواريَهُ غَياهِبَ القُبورِ الَّتي حَفَرَها بِمَعاوِل اليأْسِ، ولَكِنَّهُ سَيَمْكُثُ هُناكَ هُنَيْهاتٍ لِيَتْلوَ عَلَيْها فَيْضًا مِن القُرْآنِ، فَهْوَ، حتمًا، ما سَيَحْفَظُها مِن عَذاباتِ وَقَيْظِ الرِّكاكَةِ المُلْتَهِب. ورَيْثَما يَعودُ سَنَقولُ لَكُم (اسْتَغْفِروا لَها وَسَلوا لَها التَّثْبيتَ فإنِّها الآنَ تُسْأل).