الانتماء للوطن قيمة ومقتضيات

أ.د. إبراهيم صلاح الهدهد
رئيس جامعة الأزهر الأسبق
المستشار العلمى للمنظمة العالمية لخريجى الأزهر

وللعلماء فى قوله تعالى: «وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا» أقوال منها قول العلامة الطيبى، (شبه الدلالة على أنه وقع أجرٌ عظيم لا يُقادَرُ قدره ولا يكتنه كُنْهه، ولا يعلم كيفية إثابته إلا مَنْ هو مسمّى بذلك الاسم الجامع، فدلّ ذلك على أن العمل الذى هذا ثوابه أمرٌ عظيم ، وخطب جسيم، وفى مقارنة هذا الشرط مع الشرط السابق الدلالة على أنّ من هاجر له إحدى الحسنيين: إما أن يورث عدوّ الله مذلة وهو إمّا بسبب مُفارقته إيّاه، واتصاله إلى الخير والسعة، وإمّا أنْ يدركه الموت ويصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم.
وقول الفخر الرازى الذى اختاره على غيره حيث قال: عندى فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى: ومن بهاجر فى سبيل الله إلى بلدٍ آخر يجد فى أرض ذلك البلد من الخير والنعمة، ما يكون سببًا لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه فى بلدته الأصلية، وذلك لأن من فارق وذهب إلى بلدةٍ أجنبية فإذا استقام أمره فى تلك البلدة الأجنبية، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك، وحمل اللفظ على هذا أقرب من حمله على ما قالوه.
وقد ذكر أهل العلم أن كل هجرة لغرض دينى من طلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة أو زُهدًا فى الدنيا أوْ ابتغاء رزقٍ طيبٍ فهى هجرة إلى الله ورسوله، وإنْ أدركه الموت فى طريقه فأجره واقع على الله.
والذين يدعون إلى الهجرة إلى بلد آخر فهل هذا البلد أحسن حالاً من البلد الذى هاجروا منه؟ والبلاد الإسلامية عامة ليست مجتمعات كافرة، وليست دار كفر وهى ليست مجتمعات منحلة الخلق معوجة السلوك إلى الحد الذى يخشى المسلم فيه على دينه وخلقه، أنّ أى مجتمع لا يخلو من معصية ومن أخطاء، حتى مجتمع الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصحابته كانت فيه بعض الأخطاء الفردية، ولم يثبت أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم، دعا إلى هجر المجتمع لما فيه من بعض الأخطاء، وإنَّما دعا المخطئ إلى التوبة وحببها إليه، بل ثبت عنه، صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم فى صحيحه: أنَّه قال: «والذى نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم».
ومن هنا فلا يجوز هجر المجتمع ولا الوطن لأخطاء فيه، بل الواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ترك النبى، صلى الله عليه وسلم، مكة وهى دار كفر وقد أوذى فيها هو وصحبه كان لضرورة:
وفى الحديث الذى أخرجه أبويعلى الموصلى فى مسنده 5/69 (2662)، عن عبدالله بن عباس، رضى الله عنهما، قال: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال: أمَا والله لأخرج منك، وأنى لأعلم أنك أحب بلاد الله إلىَّ، وأكرمه على الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منكِ مَا خرجت».
وفى رواية السيوطى فى الدر المنثور 6/48: أن النبى صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار التفت إلى مكة، وقال:
«أنت أحب بلادِ الله إلى الله، وأنت أحبُّ بلاد الله إلىُّ، ولو أن المشركين لم يخرجونى لم أخرج منك، فأعدى الأعداء مَنْ عَدَا على الله فى حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحُول» (أى: بعداوة). فأنزل الله على نبيه، صلى الله عليه وسلم،: «وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِى أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ» (محمد: 13).
وفى رواية الترمذى فى كتاب: المناقب، باب: فى فضل مكة 5/679-680، قال:
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لمكة: «ما أطيبك من بلد ، وأحبّك إلىّ! ولولا أن قومك أخرجونى منكِ ما سكنتُ غيرك».
وكان النبى، صلى الله عليه وسلم، كلما تذكر وطنه أو ذكّره أحد بوطنه أصابه الحزن، وارتج منه الفؤاد:
وقد جاء ذلك الحديث الذى ذكره ابن الأثير فى أسد الغابة” 1/121 والخطابى فى غريب الحديث 1/278 قال: قدم أصَيْلٌ الغفارىُّ قبل أن يُضرب الحجابُ على أزواج النبى، صلى الله عليه وسلم، فدخل على عائشة، رضى الله عنها، فقالت له: يا أصَيْل، كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها. قالت: أقمْ حتى يأتيك رسول الله، صلى الله عليه وسلم.. فلم يلبث أن دخل عليه النبى، صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا أُصَيْل، كيَف عهدت مكة؟ قال: عهدتُها والله قد أخصب جنابها، وابيضتْ بطحاؤها (أي: أخصبت ناحيتها) وأعذق إذخرها، (أى: صار له أفنان، والإذخر: نبت معروف بالحجاز) وأسلب ثُمامُها، (الثمام: نبت بالحجاز) وأمْشَر سَلْمُها (السلم: نبت بالحجاز أي: أورق واخضر) فقال: حسبك يا أصَيْل لا تُحْزِنَّا».
وفى رواية ابن حجر فى الإصابة 1/53 (213) أنه قال له: (يا أصَيْل، دع القلوبَ تقر) فالحزن لايجعل القلوب تستقر.
وكان بلالٌ إذا أقلع عنه الحُمَّى يقول:
ألا ليتَ شِعرى هل اْبيتنَّ ليلةً
بـــــــــــوادٍ وحــــــــــولى إِذْخَرٌ وجَليل
وهـــــــــــــل أرِدَنْ يوماً مياه مَجَنَّة
وهل يَبْدُوَنْ لىَ شامةٌ وطَفِيل
وكان، صلى الله عليه وسلم، يسمع كلام أصحابه، رضوان الله عليهم، فى الحنين إلى مكة ، فيرق لحالهم، ويقدّر عواطفهم ، ويدعو لهم بأن يحبِّب الله إليهم المدينة كما حبّب إليهم مكة.
قالت عائشة: جئت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبرتُه، فقال: «اللهمَّ حببْ إلينا المدينة كحبّنا مكةَ أو أشد، وصحّحْها، وبارك لنا فى صاعها ومُدِّها، وانقل حمَّاها فاجعلها، بالجُحفة».

زر الذهاب إلى الأعلى