من فضائل الهجرة النبوية الشريفة

بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى / مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف

شهر الله المحرم من أول الأشهر العربية التي قال الله تعالى عنها:

 ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36]

والهجرة بدأت في نهاية السابع والعشرين من شهر صفر .

والهجرة النبوية على قسمين: حسية – “مادية” – ومعنوية :

فالأولى: تعني الانتقال بالروح والجسد من مكانٍ إلى آخرَ، وهذا ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه الكرام بالهجرة من مكة إلى المدينة، وهي هجرة انتهتْ بفتح مكة.

فقال صلى الله عليه وسلم: لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة، وإذا استُنْفِرتُم فانفِروا .

والثانية: هجرة معنوية :وهي تُشارِك الأولى في المعنى اللغوي، ففيها معنى الترك والهجر، ولكن ليس للأوطان، وإنما للفواحش والذنوب، فهي هجرة القلوب لا الأبدان .

فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

المسلم مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَن هجَر ما نهى الله عنه .

ومنها نوع آخر وهو الالتزام بالعبادة في زمن الفتنة والقتل، فقال صلى الله عليه وسلم:

العبادة في الهَرْج كهجرةٍ إليّ .

من فضائل الهجرة النبوية :

1- تمنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون امْرأً من الأنصار لولا الهجرة:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

لو أن الأنصار سلكوا واديًا، أو شِعْبًا، لسلَكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار .

وعن عبدالله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتَح حُنينًا قسَّم الغنائم، فأعطى المؤلَّفة قلوبُهم، فبلَغه أن الأنصار يحبون أن يُصيبوا ما أصاب الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال:

يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلاَّلًا، فهداكم الله بي؟ وعالةًفأغناكم الله بي؟ ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ ويقولون: الله ورسوله أَمَنُّ.

 فقال: ألا تُجيبوني؟

فقالوا: الله ورسوله أَمَنُّ .

 فقال: أما إنكم لو شئتُم أن تقولوا كذا وكذا، وكان من الأمر كذا وكذا لأشياء عددها، زعم عمرو أنْ لا يحفظها .

فقال: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟

 الأنصار شعار والناس دثار ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار ، ولو سلك الناس واديًا وشِعْبًا، لسلكت وادي الأنصار وشِعْبَهم، إنكم ستلقون بعدي أُثْرَةً، فاصبروا حتى تَلْقَوْني على الحوض .

2- وقوع أجْر المهاجر على الله سواء أتَم الرحلة أم لا:

عن سعيد بن جبير أن رجلًا من خزاعة كان بمكة فمرِض وهو ضمرة بن العيص بن ضمرة بن زنباع، فأمَر أهله ففرَشوا له على سرير فحملوه وانطلقوا به متوجهًا إلى المدينة، فلما كان بالتنعيم مات فنزلت:

﴿ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [النساء: 100]

قال ابن بطَّال:

 “وفيه دليل أن مَن شرَع في عمل من عمل الطاعات، وصحَّت فيه نيَّته لله، وحال بينه وبين تمامه الموت – فإن الرجاء قوي أن الله قد كتَبه في الآخرة من أهل ذلك العمل، وتقبَّله منه”.

3- هدم الذنوب:

فعن عمرو بن العاص قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأُبايعك فبسط يمينه.

 قال: فقبضتُ يدي .

 قال: ما لك يا عمرو؟  قال: قلت: أردت أن أشترطَ .

قال: تشترط بماذا ؟ قلت: أن يغفرَ لي .

قال: أما علِمتَ أن الإسلام يهدِم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدِم ما كان قبلها، وأن الحج يهدِم ما كان قبله .

قال النووي رحمه الله:

“ففيه عِظَم موقع الإسلام، والهجرة، والحج، وأن كل واحد منها يَهدِم ما كان قبله من المعاصي” .

4- مغفرة الذنوب العظام (قتل النفس):

فعن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومَنعة؟

قال: حِصن كان لدَوْس في الجاهلية، فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخَر الله للأنصار، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجَر معه رجل من قومه، فاجتَووا المدينة، فمرِض، فجزِع، فأخذ مَشاقص له، فقطع بها بَراجمه، فشَخَبتْ يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مُغطيًا يديه، فقال له: ما صنع بك ربُّك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لي أراك مغطيًا يديك؟ قال: قيل لي: لن نُصلحَ منك ما أفسدتَ، فقصَّها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم وَلِيَدَيْه فاغفِر .

أما أحكام الحديث، ففيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة، أن مَن قتَل نفسه أو ارتكب معصيةً غيرها، ومات من غير توبة، فليس بكافر، ولا يُقطع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة .

وفيه إثبات عقوبة بعض أصحاب المعاصي، فإن هذا عُوقِب في يديه، ففيه رَدٌّ على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضُر، والله أعلم .

5- الهجرة أفضل الإيمان:

فعن عمرو بن عبسة قال: قال رجل: يا رسول الله ما الإسلام؟

 قال: أن يُسلِمَ قلبُك لله عز وجل، وأن يَسلَم المسلمون من لسانك ويدك قال: فأي الإسلام أفضل؟

 قال: الإيمان قال: وما الإيمان؟

قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكُتبه ورُسله، والبعث بعد الموت قال: فأي الإيمان أفضل؟

 قال: الهجرة قال: فما الهجرة؟

قال: تَهجُر السوءَ قال: فأي الهجرة أفضل؟

 قال: الجهاد قال: وما الجهاد؟

قال: أن تُقاتل الكفارَ إذا لقيتَهم قال: فأي الجهاد أفضل؟

 قال:مَن عُقِر جوادُه، وأُهرِيقَ دمُه.

 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ثم عملان هما أفضل الأعمال، إلا مَن عمِل بمثلهما: حجة مبرورة، أو عُمرة .

قال ابن رجب الحنبلي: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان أفضل الإسلام، وأدخل فيه الأعمال، وبهذا التفصيل يظهر تحقيق القول في مسألة الإسلام والإيمان: هل هما واحد؟ أو مختلفان؟

والمختار: إذا أُفرِد كلٌّ من الإسلام والإيمان بالذِّكر، فلا فرق بينهما حينئذٍ، وإن قرَن بين الاسمين كان بينهما فرقٌ” .

6- الهجرة من خمس أوامر أمَر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمته:

فعن زيد بن سلام، عن جده مَمطُور، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أراه أبا مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وأنا آمُركم بخمس، آمركم بالسمع والطاعة، والجماعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فمن خرج من الجماعة قيْدَ شبرٍ، فقد خلع رِبْقة الإسلام من رأسه، ومن دعا دعوى الجاهلية، فهو جُثاء جهنَّمَ .

 قال رجل: يا رسول الله، وإن صام وصلَّى؟ قال: نعم، وإن صام وصلى، ولكن تسمَّوا باسم الله الذي سمَّاكم عباد الله المسلمين المؤمنين .

7- صاحب الهجرة يُقدَّم في الإمامة عند صلاة الجماعة:

فعن أَوْس بن ضَمْعَج يقول: سمعت أبا مسعود، يقول: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمُهم قراءةً، فإن كانت قراءتهم سواءً، فليَؤُمَّهم أقدمُهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فليَؤْمَّهم أكبرهم سنًّا، ولا تَؤُمَّنَّ الرجل في أهله، ولا في سلطانه، ولا تجلِس على تَكرِمته في بيته، إلا أن يأذَن لك، أو بإذنه .

قال العظيم آبادي: “هذا شاملٌ لمن تقدَّم هجرةً؛ سواءً كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، أو بعده؛ كمَن يُهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام” .

8- الهجرة عملٌ لا مثيلَ له:

فعن كَثير بن مُرَّة أن أبا فاطمة حدَّثه، أنه قال: يا رسول الله، حدِّثني بعمل أستقيم عليه وأعمله، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك بالهجرة، فإنه لا مثلَ لها .

قال الديلمي فى فيض القدير 4 / 331:

 يريد به الهجرة مما حرَّم الله .

9- المهاجر حقًّا على الله أن يُدخله الجنة:

فعن سَبْرة بن أبي فاكِه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرُقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذَر دينَك ودينَ آبائك وآباء أبيك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدَع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتُقاتل فتُقتل، فتُنكَح المرأة، ويُقسَّم المال، فعصاه فجاهد .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فمن فعل ذلك كان حقًّا على الله عز وجل أن يُدخله الجنة، ومَن قُتِل كان حقًّا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرِق كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، أو وقَصته دابَّته كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة .

10- المهاجر يُبشَّر ببيت في رَبَض الجنة، وببيت في وسط الجنة:

فعن عمرو بن مالك الجَنْبي، أنه سمع فضالة بن عبيد، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وأنا زعيم لمن آمَن بي، وأسلم، وجاهد في سبيل الله، ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وببيت في أعلى غرف الجنة، من فعل ذلك فلم يدَع للخير مطلبًا، ولا من الشر مهربًا، يموت حيث شاء أن يموت .

11- المهاجر في أول زُمرة تدخل الجنة:

فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أُمتي؟

 قال: الله ورسوله أعلم، فقال:

المهاجرون يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أَوَقَد حُوسِبتُم؟ فيقولون بأي شيء نُحاسب؟ وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله، حتى مِتنا على ذلك، قال: فيُفتح لهم، فيَقِيلون فيه أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس .

زر الذهاب إلى الأعلى