مَع بَدْءِ شهرِ رمَضانَ

▪️بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى _ مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إذا كانَت أوَّلُ ليلةٍ من رمَضانَ صُفِّدتِ الشياطين ومَردةُ الجِنِّ وغلِّقت أبَوابُ النَّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ وفُتِحت أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ .
ونادى منادٍ يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِر .
وللَّهِ عتقاءُ منَ النَّارِ وذلِك في كلِّ ليلةٍ » .أخرجه الترمذي (682) وابن ماجه (1642) واللفظ له]فى الحديث الشريف : أنعَم اللهُ عزَّ وجلَّ على عِبادِه بمَواسِمَ مِن الخيراتِ يَحصُلون فيها بسَببِ الأعمالِ الصَّالحةِ القليلةِ على الثَّوابِ الكثيرِ مِن عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
ومِن نِعَمِه سُبحانَه أيضًا أنْ سَخَّر الله لهم مِن الأسبابِ ما يُعينُهم على أدائِها على الوجْهِ الأكمَلِ لها .

وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أبو هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال :

“إذا كانَت أوَّلُ ليلةٍ مِن رمَضانَ”

أي : إنَّه مَع بَدْءِ شهرِ رمَضانَ تَحدُثُ علاماتٌ على دُخولِه وهَدايا مِن اللهِ لعِبادِه .

فأُولى هذه العلاماتِ والهدايا هي ما جاء في قولِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم :

“صُفِّدتِ الشَّياطينُ”

أي : شُدَّتْ عليهِم الأغلالُ والسَّلاسِلُ .

“ومَردةُ الجِنِّ” وكذلك تُشَدُّ الأغلالُ والسَّلاسِلُ على مرَدَةِ الجِنِّ ، وهم رُؤساءُ الشَّياطينِ المتجرِّدون للشَّرِّ ، أو هم العُتاةُ الشِّدادُ مِن الجِنِّ .

والحِكمةُ في تَغْليلِهم حتَّى لا يَعمَلوا بالوَساوِسِ للصَّائِمين ويُفسِدوا عليهم صَومَهم .

وقيل : يَعْني كَثرةَ الأجرِ والثَّوابِ والمغفرةِ بأن يَقِلَّ إضلالُ مرَدةِ الشَّياطينِ للمُسلِمين ، فتَصيرَ الشَّياطينُ كأنَّها مُسلسَلةٌ عن الإغواءِ والوَسوَسةِ .

وقيل : إنَّ الشَّياطينَ إنَّما تُغَلُّ عن الَّذين يَعرِفون حَقَّ الصِّيامِ المعظِّمين له ، ويَقومون به على وَجهِه الأكمَلِ ، ويُحقِّقون شُروطَه وأخلاقَه وآدابَه .

أمَّا الَّذي امتنَع عن الطَّعامِ والشَّرابِ ، ولم يَعرِفْ للصِّيامِ حَقَّه ، ولم يَأتِ بآدابِه على وجهِ التَّمامِ فليس ذلك بأهلٍ لِتُغَلَّ الشَّياطينُ عنه ؛ فيكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء ولناس دون ناس .

ويَحتمِلُ أن يَكونَ المرادُ :

أنَّ الشَّياطينَ لا يَخلُصون مِن افتِتانِ المسلِمين إلى ما يَخلُصون إليه في غيرِ شهرِ رمَضانَ ؛ لاشتِغالِهم بالصِّيامِ الَّذي فيه قَمعُ الشَّهواتِ ، وبقِراءةِ القرآنِ والذِّكرِ .

والهديَّةُ الثَّانيةُ :

“وغُلِّقَت أبَوابُ النَّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ ، وفُتِّحَت أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ” .

وهذا كالتَّأكيدِ لِمَا سبَق مِن أنَّ غَلْقَ أبوابِ النَّارِ هي مَزيدٌ لِغَلقِ كلِّ مَسلَكٍ مِن مَسالِكِ الشَّرِّ ، وأنَّ فَتْحَ أبوابِ الجنَّةِ هو مَزيدٌ لفَتحِ كلِّ مَسلَكٍ مِن مَسالِكِ الخيرِ .

وقيل : الفتحُ والغلقُ المَذْكورانِ هما على الحَقيقةِ ؛ إكْرامًا مِن اللهِ لعِبادِه في هذا الشَّهرِ .

والهديَّةُ الثَّالثةُ :

“ونادى مُنادٍ” أي : مِن عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ :

“يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ” أي : إنَّ هذا الشَّهرَ يُرغِّبُ في أعمالِ الخيرِ وخاصَّةً عِندَ أصحابِها ؛ لِمَا فيه مِن الأسبابِ الَّتي تُعينُه على ذلك ؛ فأقبِلوا على اللهِ وعلى طاعتِه .

“ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِرْ” أي : أمسِكْ عنه وامتَنِعْ فإنَّه وقتٌ تَرِقُّ فيه القلوبُ للتَّوبةِ .

والهديَّةُ الرَّابعةُ :

“وللهِ عُتَقاءُ مِنَ النَّارِ” أي :

وللهِ عُتقاءُ كَثيرونَ مِن النَّارِ ؛ فلْيَحرِصْ كلُّ لَبيبٍ على أنْ يَكونَ مِن زُمرَتِهم .

“وذلِك في كلِّ ليلةٍ” أي :

وإنَّ مِن مَزيدِ رَحمةِ اللهِ لعبادِه أن يُعتِقَ مِن النَّارِ عِبادًا له في كلِّ ليلةٍ مِن لَيالي رمَضانَ .

وهذا لِلحَضِّ على الاجتِهادِ في هذا الشَّهرِ الفَضيلِ ؛ حتَّى يَكونَ العبدُ مِن هؤلاءِ العُتَقاءِ ، ويُرزَقَ النجاةَ مِن النِّيرانِ، والفوزَ بالجِنانِ .

وفي الحديثِ :

الحثُّ على اغتِنامِ أوقاتِ الفَضلِ والخيرِ بعَملِ الطَّاعاتِ والبُعْدِ عَن المنكَراتِ .

وفيه : إثباتُ الجنَّةِ والنَّارِ وأنَّهما الآنَ موجودَتانِ وأنَّ لهما أبوابًا تُفتَحُ وتُغلَقُ .
وفيه : بيانُ عظَمةِ لُطفِ اللهِ تعالى ، وكَثرةِ كرَمِه وإحسانِه على عبادِه ، حيث يَحفَظُ لهم صِيامَهم ويَدفَعُ عنهم أذَى المرَدَةِ مِن الشَّياطينِ .

زر الذهاب إلى الأعلى