صاحب الخُلُق العظيم (1)

بقلم: محمد رحيم الحسن- بنجلاديش- الفرقة الرابعة- كلية الشريعة والقانون.

كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إنسانًا فريدًا فى كل أطوار حياته منذ طفولته المبكرة.. فى شبابه- قبل البعثة- كانت حياته نموذجًا كريمًا للخُلُق الرفيع، بل يقول بعض أصحاب السيَر: إنَّ محمدًا، وهو رضيع، كان دائمًا يرضع ثَدى مُرضعته اليمنى، ولا يرضع من اليسرى، كأنما يتركه لإخوته الآخرين من الرضاعة، ولا غَرَابة فى ذلك؛ فقد صنَعه ربُّه على عينه، ربَّاه فأكمَل تربيته، وأدَّبه فأحسَن تأديبه، وفطَرَه على محاسِّن الشيم ومكارم الأخلاق، ولا يستطيع بشَرٌ كائنٌ مَن كان أن يبلغَ من الخُلُق الرفيع ما بلغَه خاتَم النبيين؛ لأنَّ الله هو الذى ربَّاه وكمَّله.

لقد وصفه الإمام البوصيرى، رحمه الله، فى بردته الشهيرة بقوله:

فَهْوَ الَّذِّى تَمَّ مَعْنَاه وَصُورَتَه

ثُمَّ اصْطَفَاه حَبِّيبًا بَارِّئَ النَّسَمِّ

مُنَزَّهًا عَنْ شَرِّيك فِّى مَحَاسِّنِّهِّ

فَجَوْهَرُ الْحُسْنِّ فِّيهِّ غَيْرُ مُنْقَسِّمِّ

وَمَبْلَغُ الْعِّلْمِّ فِّيهِّ أَنَّه بَشَرٌ

وَأَنَّه خَيْرُ خَلْقِّ الله كُلِّهِّمِّ

ونحن أمام حديقة أخلاق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الغنَّاء الوارفة الظلال، الواسعة الأرجاء، نشعر بأننا جد عاجزين عن الإحاطة بهذا البحر الخِّضَم، فلقد كان محمد، صلى الله عليه وسلم، مثلًا أعلى فى كل خُلق كريم بما لا يبلغ الوصْف مُنتهاه، كان جَمَّ التواضع، حليمًا، شجاعًا، كريمًا، عدْلاً، حكيمًا.. إلى غير ذلك مما لا حدودَ له، فإن الله- عز وجل- قد وفَّاه حقَّه؛ إذ قال: «وَإِّنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظِّيم» (القلم: 4).

ومع أنَّ الله أعطاه كلَّ أسباب الرفْعة والشرف، فما مِّن نبى مُرسَل ولا مَلَك مُقرَّب نَال ما نالَه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الفضْل والكرامة، ورفيع المنزلة عند ربه- جلَّ وعلا- وما تيسَّر له من أسباب العَظَمة الحقيقيَّة والمهابة الربَّانيَّة، والكمال الإنسانى؛ فقد كان، صلى الله عليه وسلم، غاية فى التواضُع، كان بتواضُعه متميزًا، ويَخفض جَناحَه متعززًا، كيف لا وقد رسَم له ربُّه منهجَ التواضع، فقال له: «وَاخْفِّضْ جَنَاحَكَ لِّمَنِّ اتَّبَعَكَ مِّنَ الْمُؤْمِّنِّينَ» (الشعراء: 215).

يروى الإمام أحمد والبيهقى أنه، صلى الله عليه وسلم، خُير بين أن يكون نبيًّا مَلِّكًا، أو أن يكون نبيًّا عبدًا، فاختَار، صلى الله عليه وسلم، أن يكون نبيًّا عبدًا. ومع ما آتاه الله من التقدُّم والإمامة والفضْل على سائر الأنبياء؛ فقد كان يَكْره أن يُفَضلَه أحد على أنبياء الله؛ تواضُعًا منه، صلى الله عليه وسلم.

ورَد أنه استبَّ مسلمٌ ويهودى، فقال اليهودى معتزًا بنبيه موسى: والذى اصطفَى موسى على العالَمين، فغاظَ ذلك المسلمَ فلطَمه، فبلَغ ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا تُفاضلوا بين الأنبياء، ولا تخيرونى على موسى» مع أنه، صلى الله عليه وسلم، يقول فى حديث: «لو كان موسى حيًّا، ما وسعَه إلا أتباعى».

ولقد كان محمد، صلى الله عليه وسلم، متواضعًا فى كل حال، متواضعًا مع أهله، متواضعًا مع خَدَمه، متواضعًا مع أصحابه ومع الناس أجمعين، أمَّا تواضعُه مع أهله، فلقد سُئِّلَتْ عائشة، رضى الله عنها، ماذا يصنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى بيْته؟ فقالتْ: كما يصنع أحدُكم فى بيته، يَخصف نعْلَه، ويَحلب شاتَه، ويَخدِّم نفسه، ويكون فى مهنة أهله.

أمَّا تواضُعه مع خَدَمه: فإن أنس بن مالك- رضى الله عنه- يقول: خدمتُ النبى، صلى الله عليه وسلم، نحو عشر سنين، فما قال لشىء فعلتُه: لِمَ فعلته؟ وما قال لشىء تركتُه: لِمَ تركته؟ وأعجبُ من ذلك ما يَرويه أنس من سُمو خُلق الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى تواضعه يقول: خدمتُ النبى، صلى الله عليه وسلم، نحو عشر سنين، فما صحبتُه فى حضر ولا فى سفر لأخدمه، إلاَّ وكانتْ خِّدْمته لى أكثر من خِّدْمتى له.

أما تواضعُه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه: فقد كان جَمَّ التواضُع، ومن ذلك أنه خرَج يومًا على أصحابه متكئًا على عصى، فقاموا له، فلم يفرَحْ ولَم يَشكرْهم، ولكن قال لهم: «لا تقوموا كما يقوم الأعاجم، يعظم بعضُهم بعضًا، إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلِّس العبد».

أما حُسن عِّشْرته وجمال أدَبه، وبَسط خُلقه مع سائر الناس: فمما تواتَر به صحيحُ الأخبار، فهذا على، وهو أقربُ الناس لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: كان، عليه الصلاة والسلام، أوسع الناس صدرًا، وأصدقهم لَهْجة، وألْيَنهم عَريكة، وأكرمَهم عِّشْرة، وكان، عليه الصلاة والسلام، يتفقَّد أصحابَه، ويحذر الناس من غير أن يطوى عن أحد بِّشْرَه وبَشاشته، وكان أكْيسَ الناس، وكان يعطى كلَّ جُلسائه نصيبَهم من الإكرام؛ حتى لا يحسب جليسُه أنَّ أحدًا أكرمَ عليه منه، ويقول أنس بن مالك: ما الْتَقَم أحدٌ أُذُنَ النبى، صلى الله عليه وسلم، يُحادثه، فينحى رأْسَه، حتى يكون الرجل هو الذى ينحى رأسَه أولاً، وما أخذ أحدٌ بيده فيرسلُها، حتى يُرسلها الآخر.

زر الذهاب إلى الأعلى