كتابة بعض الثروة لبعض مستحقيها بعد الموت.. بقلم أ.د. عباس شومان، وكيل الأزهر الأسبق، الأمين العام لهيئة كبار العلماء، ورئيس مجلس منظمة خريجي الأزهر
للمال أهميَّة كبرى في حياة الإنسان؛ فهو يحتاج إليه في جميع شأنه من مأكل وملبس وعلاج ومسكن، وقد أُلْقِيَ حبه في قلب البشر حتى إن بعضهم يبخل به عن نفسه فضلا عن عياله، ولقد بيَّن رب العزة منزلة المال من نفس الإنسان في قوله – تعالى – : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} ، والمال الذي بين أيدي الناس والذي يعبر عنه بالملك مملوك لله وليس للبشر؛ فهو في أيديهم على سبيل الاستخلاف حيث يقول رب العزة- جل وعلا – : {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ }، وقد أذن لهم رب العالمين بالتصرف فيه تصرفات المالك في ملكه، إلا أن هذا التصرفات يجب أن يراعى فيها الضوابط الشرعيَّة والقيود التي أوردها الشارع على التصرفات الماليَّة، حيث حرَّم الشارع على الناس التبذير والإسرف، فقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}، وقال: { …وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ، كما منع الناس من استعمال مالهم في شراء المحرمات كالخمور وبيعها، ومن تنميته في الإقراض الربوي، والغش، والتدليس، والاحتكار، وفيما يضر بالغير كبناء المصانع بين المساكن؛ لما فيه من ضرر الضوضاء، والتلوث المؤذي للجيران.. وللإنسان بسلطة الاستخلاف التي أعطاها شرعنا له أن ينفق من المال في الخير بالكيفيَّة التي يراها؛ فهو ينفق على أولاده ومن يعول، وعلى نفسه، وله أن يتصدق تقربا لله، والمال المنتفع به في ضوء ضوابط الشرع إذا مات عنه صاحبه ينتقل ميراثا إلى أقاربه الذين حُدِّدُوا بنصوص قطعية الدلالة؛ حيث لا يمكن لصاحب المال بعد موته الانتفاع بالمال ولا إدارته فتنتهي سلطة الاستخلاف التي كانت له، وتنتقل إلى ورثته كل وارث بمقدار ما أخذه من التركة.
ولا يملك الإنسان التدخل في الأنصبة المستحقة للورثة فهي مقسمة من قبل شرعنا، والتصرف الوحيد الذي ملَّكه الشرع لصاحب المال وينفذ في ماله بعد موته هو الوصية في حدود ثلث تركته، من باب التقرب لله – عز وجل – وتكون لغير ورثته.
وبدلا من أن يستغل الناس الوصية التي أجازها لهم الشرع لنيل الثواب في الآخرة، فإن بعضهم يحاول التحايل على الشرع لزيادة نصيب بعض الورثة على حساب بعضهم الآخر، ومن ذلك كتابة عقود بيع أو هبة لبعض الورثة لتمليكهم ماله أو بعضه أثناء حياته حتى لا يزاحمهم غيرهم من الورثة فيه بعد الوفاة، ويكثر هذا في حال عدم إنجاب صاحب المال أبناء ذكورًا وتكون ذريته من البنات فقط، فيكتب لهن ماله، ويعلل لذلك بخوفه عليهن من إخوته – أعمام البنات – أو غيرهم من الورثة، وللأسف يفتيه بعض أهل العلم بالجواز، ويعللون لذلك بأن الإنسان في حياته حر يتصرف في ماله كما يشاء، ولذا فهو يملك هبتهن ماله أو بعضه.
وحقيقة الأمر فإن هذه الفتاوى خاطئة لا ينبغي الالتفات إليها، فالأصل الذي يستند عليه من يجيزون ذلك يستخدمونه بشكل خاطئ؛ فالإنسان يملك التصرف في ماله في حياته حقًّا، ولكن هذه الملكيَّة ليست مطلقة، فكما سبقت الإشارة فإن تصرفات الإنسان في ماله يجب أن تتقيد بالضوابط الشرعيَّة، والتصرفات التي تؤثر على انتقال المال ميراثا بعد موته لا يملكها في ماله الذي بين يديه إلا في المقدار الذي أجازه الشرع له وهو الوصية في مقدار الثلث، ومعلوم أن الوصية تكون لمن لا نصيب لهم في التركة بعد موته، لما راه الترمذي وغيره عن أبى أمامة الباهلى قال :«سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته عام حجة الوداع: إن الله – تبارك وتعالى – قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث»، وفي هذا رد على من يقولون بجواز الوصيَّة للبنات بالثلث الذي يتبقى بعد استحقاقهن لثلثي التركة.
ثم إن القول بحرية الإنسان في التصرف في ماله حال حياته ولذا فهو يملك تمليك بناته ونحوهن كما يشاء بطريق الهبة، يرده ما روي عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمًا، فَقَالَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ»، قَالَ: لاَ، قَالَ : «فَارْجِعْهُ»، فهذا نص واضح يمنع صحة الهبة لبعض الورثة دون البعض، كما يدل على عدم صحة القول بحرية الإنسان المطلقة في التصرف في ماله أثناء الحياة، وقد أبطل الفقهاء تصرفات المريض مرض الموت التي يغلب على الظن أنها للإضرار بالورثة كتطليق زوجته وغالبا أثناء مرضه؛ حيث إن الظاهر إرادة إبعادها عن مزاحمة أولاده في التركة؛ لأنها في الغالب لا تكون أما لأولاده، ولذا يسمونه طلاق الفار، حيث ورثها الفقهاء مع تصحيح الطلاق حتى لو انقضت عدتها، معاملة له بنقيض قصده.
ثم تعليل من أجازوا للإنسان كتابة أمواله أو بعضها لبناته بالخوف عليهن من أعمامهن – إخوة الميِّت- يرد عليه بأن بنات الميِّت الذي لم يترك ولدا نصيبهم ثلثا التركة، لا ينازعهن فيه أحد من الورثة والجميع يشركون في الثلث الباقي، وهذا المقدار الكبير لا يصل في غالب حالات الميراث لبنات الميِّت، فالميِّت الذي يترك مع البنات ولدا أو أكثر لا يزيد نصيب البنات على نصف التركة في أحسن الأحوال، وهو إذا ترك مع بناته ولدا واحدا، أما إن ترك أكثر من ولد فإن نصيبهن لا يصل إلى نصف التركة، وهذا يعني أن البنات في حال عدم وجود الأبناء الذكور للميت أكثر نصيبا في ميراث والدهم من الحالات التي يكون للميِّت فيها أبناء ذكور.
كما يدل على بطلان الفتوى بجواز الهبة لبعض الورثة أن صاحب المال الذي له مع البنات ولد عاق ومسرف ومبذر ولا يفرق بين الحلال والحرام، ويخشى أبوه على بناته بعد وفاته من ظلم ابنه لأخواته بنات الميِّت، فإن أحدًا من الفقهاء لم يُجِزْ كتابة المال للبنات حتى لا يرث فيه هذا الولد العاق، والولد الذكر يرث بالطريق نفسه الذي يرث به الإخوة ومن بعدهم عند عدم الولد الذكر وهي التعصيب، فإذا لم تَجُزْ كتابة المال للبنات في حال الخوف عليهن من الابن، فكذا لا تجوز الكتابة في حال الخوف عليهن من أعمامهن.
ثم السؤال: لماذا يكثر السؤال عن حكم الكتابة للبنات ممن لم ينجبوا ذكورا في حين يندر أن نجد شخصا أنجب ذكورا يفكر في هذا الأمر؟
وسؤال آخر: إذا أجيز لمن كانت خلفته بنات فقط أن يكتب شيئا من ماله لبناته، فمن هذا الذي يموت وخلفته من البنات فقط دون أن يكتب جميع ما يملك لبناته؟
وهنا يثور سؤال أخير: ما فائدة توريث شرعنا للإخوة وأولادهم، وللأعمام وأولادهم، إذا كان من حق الإنسان أن يكتب ماله لبناته؟!
فليتق اللهَ أولئك الذين يتحايلون على شرع الله ويقنعون أنفسهم بمشروعيَّة ما تزينه لهم نفوسهم، وليتق الله هؤلاء الذين يفتون الناس بفتاوى لا تستند على أصل شرعيٍّ؛ فالمواريث بيَّنها شرعنا الحكيم بيانا شافيا بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، فلنقف عند حدود شرعنا؛ حتى لا نكون ممن قال عنهم رب العالمين: { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} .