حج وعمرة البدل بين التطوع وأخذ الأجرة والتجارة

فضيلة الأستاذ الدكتور/ عباس شومان
رئيس منظمة خريجي الأزهر
الأمين العام لهيئة كبار العلماء

في المقالين السابقين بيَّنت الحالات التي لا تصح الإنابة فيها بأداء الحج أو العمرة، وذكرت اتفاق العلماء على عدم الجواز من القادر على الأداء بنفسه لحج الفريضة أو العمرة عند القائلين بوجوبها، كما بيَّنت اختلافهم في الإنابة في الفرض من غير القادر بنفسه، وكذا اختلفوا في الإنابة في النفل من القادر على الأداء بنفسه، وفي الحالات التي صحح فيها بعض الفقهاء النيابة لأداء الحج أو العمرة؛ سواء أكان في حال الفرض أم النفل قد يكون النائب متبرِّعًا بالأداء دون مقابل من المنوب عنه، وقد يكون بمقابل مالي، وفي حال التطوع بالإنابة لا توجد مشكلة، فيقع الأداء عن المنوب عنه، ويكون للنائب الأجر والثواب أيضًا، لتمكينه المنوب عنه من الطاعة والتقرب إلى الله.

أمَّا في حال طلب النائب مقابل مالي لأداء الحج أو العمرة عن غيره، فقد اختلف القائلون في جواز الإنابة في صحة أخذ المقابل المالي، وهذا يرجع إلى خلاف قديم بين الفقهاء حول أخذ الأجرة على الطاعات بشكل عام، فمنهم من منعها في الطاعات كلِّها كالآذان والإمامة في الصلاة وتحفيظ القرآن والتعليم كالحنفية ، ففي الاختيار:«ولا تجوز الإجارة على الطاعات كالحج والأذان والإمامة وتعليم القرآن والفقه، وبعض أصحابنا المتأخرين قال : يجوز على التعليم والإمامة في زماننا، وعليه الفتوى»() ، ومنهم مَنْ أجازها في بعض الطاعات كالإمامة وتعليم القرآن ومنعها في البعض كالحج والعمرة، كالمالكيَّة حيث لا يجيزون النيابة في الحج والعمرة عن الحي أصلًا حتى في حال عجزه عن الأداء بنفسه، ففي حاشية الدسوقي قول الإمام مالك :« لأن يؤاجر الرجل نفسه من عمل اللبن – ضرب الطوب من الطرين- وقطع الحطب وسوق الإبل ؛ أحب إلي من أن يعمل عملًا لله بأجر» ()، وهو رواية عند الحنابلة ففي الكافي:« قال الإمام أحمد رحمه الله: ما سمعنا أحدًا استأجر من يحج عن ميت» () ، ومنهم مَنْ أجازها في غير المتعين على الشخص وهو ما عليه العمل والفتوى، وإلا لتعطلت معظم الأعمال ،حيث تحولت إلى مهن ووظائف يتكسب منها الناس ما يعينهم على قضاء حاجاتهم.

وقد استدل القائلون بجواز أخذ الأجرة على أداء الطاعات بأدلة من الكتاب الكريم، ومنها قوله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }() ؛ حيث إنَّ جمع أموال الزكاة من الطاعات، وقد أوجب ربُّ العالمين للعامل أجرة على جمعها، قال الإمام ابن العربي: «وهذا يدل على مسألة بديعة، وهي أنَّ ما كان من فروض الكفايات فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه، ومن ذلك الإمامة، فإنَّ الصلاة وإن كانت متوجهة على جميع الخلق، إلا أن تقدم بعضهم بهم من فروض الكفاية، فلا جرم يجوز أخذ الأجرة عليها»()، ويقول ابن قدامة: «وفي الاستئجار على الحج والآذان، وتعليم القرآن والفقه ونحوه، مما يتعدى نفعه، ويختص فاعله أن يكون من أهل القربة، روايتان :إحداهما لا يجوز ، وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق، والأخرى يجوز وهو مذهب مالك، والشافعي، وابن المنذر؛ لأنَّ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم قال: « أحق ما أخذتم عليه أجرًا ا كتاب الله» [رواه البخاري ] ()، كما استدل القائلون بجواز أخذ الأجرة على تعليم الطاعات والنيابة عن الغير في بعضها بما روي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ»، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا»() ، فالأجر متخذ هنا على قراءة القرآن للرقيا ، وعلى ذلك فلا مانع من أخذ النائب عن غيره حجًّا أو عمرة أجرة على الأداء نيابة عنه()، وتعتبر في ذلك شروط الإجارة وأحكامها؛ ولذا إذا لم يؤد النائب الحج أو العمرة المستأجر على أدائها عن غيره؛ وجب عليه ردُّ الأجرة إلى المؤجِّر له،: «قال سفيان: إذا حج رجل عن رجل ففاته الحج، فهو ضامن» ()أي يلزمه ردُّ ما أخذ ممن أنابه.

واختلف الفقهاء في المستحِق لمن ناب عن غيره في الحج أو العمرة، حيث قيَّده بعضهم بالنفقة الفعليَّة التي يتحملها النائب باعتدال دون إسراف أو تقتير، فإذا فاض منه بعض مال يجب رده إلى من أنابه مالم يكن شرط أن ما بقي فهو له، ولم يلزمه بعضهم بردِّ شيء، والخلاف يرجع إلى خلافهم في صفة النائب فمن جعله وكيلًا قيَّد المستحق له بالإنفاق الفعلي، ومن جعله أجيرًا جعل له ما دفعه المستأجر كاملًا.

جاء في الحاوي «إذا دفع إلى النائب ما يحج به؛ فعليه أن ينفق بحسب حاجته من غير إسراف ولا تقتير، نص عليه، وإن فضل شيء رده ، إلا أن يهبه له مالكه . هذا إذا قلنا لا يصح الاستئجار على الحجِّ ، فيلزمه رد ما فضل ؛ لأنه لم يملكه النائب بأخذه ، بل هو على ملك مالكه ؛ لأنَّه لم يأخذه بعقد إجارة ، وإنما أخذه على وجه الإباحة كما يبيحه طعامه.

وإن أسرف في الإنفاق : ضمن ما زاد على النفقة بالمعروف، وقد ذكر ابن أبي موسى فيمن دفع إلى رجل مالًا وقال له: حج عني بهذا ، فما فضل منه فلك. لم يكن للمدفوع إليه أن يبتاع بذلك المال متاعًا للتجارة ، ومتى فعل ذلك كان مخالفًا ؛ لأنه إنما أمره أن يحج به ، فما فضل فله ، ولم يجعل له التجارة به قبل الحج» ().

والخلاصة من كلِّ ما سبق أنَّ الفقهاء اتفقوا على عدم جواز إنابة القادر غيره على أداء الحج أو العمرة نيابة عنه، وأنَّ بعضهم أجاز نيابة غير القادر على الأداء بنفسه في الحج المفروض والعمرة الواجبة ولم يجزه في النفل فيهما، وأنَّ بعضهم أجازه في النفل من القادر عليه بنفسه، وأنَّ من أجازوا النيابة في الحج أو العمرة اتفقوا على جواز النيابة تطوعًا من دون مقابل، واختلفوا في أخذ بدل مادي على الأداء نيابة عن الغير، وأن مَنْ أجازوا أخذ بدل مالي اختلفوا في كون المال أجرة أو نفقة، والفرق بينهما أنَّ البدل لو كان نفقة فهي تقدر بالإنفاق الحقيقي والمعتدل من النائب أثناء تأدية الحج أو العمرة، أمَّا إذا اعتبر أجرة فما أخذه النائب فهو حق له ولو كان الإنفاق أقل من الأجرة، كما أنَّ من أجازوا النيابة ألزموا النائب بغرامات المخالفات التي تقع منه، كما لو ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام.

ولذا فقد تبيَّن أنَّ أداء العمرة أو الحج عن الغير ليس بابًا من أبواب التجارة تتبناه الشركات التجاريَّة الباحثة عن الكسب والربح، فلتبحث لها عن مصدر كسب لا يخل بالمقصود من العبادات، وقد سبق القول بأنَّ هذه الشركات يمكنها تحقيق مكاسب طيبة من القيام على خدمات الحجاج والمعتمرين.

زر الذهاب إلى الأعلى