قبل أيام من المؤتمر العاشر لدار الإفتاء المصرية: د.نظير عيَّاد مفتى الجمهورية عضو مجلس”خريجى الأزهر” في حوار خاص لـ”الرواق”: صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي تتطلب مقاربة جديدة تجمع بين التأصيل الشرعي المتين والتأهيل المعرفي المعاصر
نصوغ الفتوى بلغة عصرية
- تطبيقات الذكاء الاصطناعى واقع لا يمكن تجاهله..ونخوض معركة لبناء الوعى
- نتصدى لحملات التشكيك والتزييف الفكرى..و”التجديد” أمر أصيل فى ديننا
- الفتوى الرشيدة تساعد فى إطفاء نيران النزاعات الدولية
- التحول الرقمى ضرورة حتمية لاستيعاب متغيرات العصر
- نتعامل مع التراث بعقل ناقد.. والإسلام فتح باب الاجتهاد بضوابط
- أصحاب الفكر المتشدد استغلوا الفتوى لتبرير العنف ونشر الكراهية
- هناك تجاوزات باسم “التنوير”.. و”الطعن” في الثوابت مرفوض
- قانون “تنظيم الفتوى” خطوة تاريخية تقضي على منتحلى صفة الإفتاء
- الأزهر هو المظلة التى نستظل بها ..وعلاقة المؤسسات الدينية الثلاث قوية
- ندشن وثيقة كأول مرجعية شرعية لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعى فى الفتوى
- ما يحدث فى “غزة” كارثة..والكيان المحتل لايرعى حرمة ولا يعرف للإنسانية كرامة
حوار: صابر رمضان
لا شك أنَّ الذكاء الاصطناعى من الممكن أن يصبح أداة ذات تأثير فعَّال لدعم منظومة الفتوى وترشيدها، عبر تحليل الكم الكبير من الأسئلة الشرعية وإتاحة إجابات أولية سريعة مبنية على المعلومات الموثوقة، وقد نجحت دار الإفتاء المصرية في تدشين منصات رقمية ومواقع توثيقية بخوارزميات الذكاء الاصطناعى لرصد الفتاوى الشاذة وتصحيحها قبل انتشارها، ورؤية دار الإفتاء لتوظيف الذكاء الاصطناعى في خدمة الفتوى تنطلق من كونه خادمًا للمفتى لا بديلا عنه، فالذكاء الاصطناعى يستطيع توفير بيانات وتحليلات تدعم قرار المفتى، ويمكن من إعادة عرض الأحكام الشرعية بأسلوب عصري مواكب دون تفريط في الأصالة، كما أنه أداة مهمة لمواجهة سيل المعلومات غير المنضبطة.
من هنا اختارت دار الإفتاء المصرية عنوان مؤتمرها العاشر”صناعة المفتى الرشيد فى عصر الذكاء الاصطناعى” لأهمية هذه القضية، فلم يكن اختيار هذا العنوان محض اجتهاد أو أمر عابر، بل جاء بعد دراسة مهمة للواقع المعاصر وتحديات متصاعدة يواجهها الخطاب الدينى، وعلى رأسها التأثير المتزايد للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعى على كل مناحى الحياة بما فيها الجوانب الشرعية والإفتائية.
قبل أيام قلائل من عقد المؤتمر “الرواق” التقت فضيلة الأستاذ الدكتور نظير عيَّاد مفتي الديار المصرية رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، وهذا نص الحوار مع فضيلته.
- بداية… تعقد دار الإفتاء المصرية مؤتمرها السنوي قريبًا تحت عنوان”صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي”…فماذا عن أهم محاوره؟ وهل للفتوى علاقة بالذكاء الاصطناعي؟
- نعم، يحمل مؤتمرنا هذا العام عنوانًا معبرًا عن اللحظة الراهنة وتحدياتها، وهو “صناعة المفتي في عصر الذكاء الاصطناعي”، حيث نرصد من خلاله جملة من المحاور الحيوية، من أبرزها: أثر الذكاء الاصطناعي على الفتوى، وتأهيل المفتي للتعامل مع الوسائط الرقمية، وأخلاقيات توظيف التكنولوجيا في المجال الديني، إضافة إلى استعراض تجارب الدول في رقمنة الإفتاء ومواجهة الفتاوى المضللة.
أما عن علاقة الفتوى بالذكاء الاصطناعي، فإننا نؤمن أن التقنية أداة يمكن تسخيرها لخدمة العلوم الشرعية، ومن ذلك الإفتاء، لا أن تكون بديلًا عن المفتي أو أن تنتج فتاوى دون وعي أو اجتهاد بشري. فنحن نسعى إلى الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي في ضبط إدارة البيانات وتحليل السياقات وتيسير الوصول إلى المعلومات، ولكن القرار الإفتائي النهائي والاجتهاد الفقه يجب أن يظل شأنًا إنسانيًّا يُبنى على العلم والتقوى وإدراك الواقع والفهم المقاصدي.
- من المؤمل أن تصدر وثيقة بشأن “الذكاء الاصطناعى والإفتاء خلال مؤتمركم ماذا عن أهدافها واستراتيجيتها؟
- هذه الوثيقة تعد أول مرجعية شرعية وأخلاقية شاملة تصدر على المستوى العالمى لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعى في المجال الإفتائي، وهى صادرة بعد دراسات معمقة ونقاشات واسعة، شارك فيها علماء الشريعة وخبراء التقنية، والوثيقة تؤسس ميثاقًا متكاملا يضبط العلاقة بين التطور الرقمى والوظيفة الإفتائية، بحيث تصان هيبة الفتوى وتحمى من التوظيف الخاطئ للتكنولوجيا، وتحقق التوازن بين الأصالة الشرعية ومتطلبات العصر الرقمي، وهو ما نعبر عنه بمفهوم الرشد الإفتائي الذى يجمع بين العلم والحكمة والبصيرة النافذة.وتستهدف أيضًا ضبط استخدام الذكاء الاصطناعى في الإفتاء بضوابط شرعية وأخلاتقية، وتمكين الفتوى من أدوات التقنية دون التفريط فى أصول الاجتهاد وكذلك التأكيد على بقاء العنصر البشري في مركز العملية الإفتائية، بالإضافة إلى سعيها لتعزيز التعاون الدولى بين دور الإفتاء في استخدام الذكاء الاصطناعى بشكل جماعى مسئول.
- ما أهم التحديات الأخلاقية التى تفرضها تطبيقات الذكاء الاصطناعي على عمل المفتي؟
تطبيقات الذكاء الاصطناعي باتت واقعًا لا يمكن تجاهله، وهي تُستخدم في مجالات متعددة، منها المجال الإفتائي. غير أن دخول هذه التكنولوجيا المتقدمة إلى ساحة الفتوى يفرض علينا تحديات أخلاقية ومهنية بالغة الحساسية، يتعيّن التعامل معها بقدرٍ كبيرٍ من الوعي والبصيرة الشرعية.
من أبرز هذه التحديات اختزال العملية الإفتائية إلى مجرد نتائج تصدر عن خوارزميات مبرمجة، دون تقدير لحجم المسؤولية الشرعية والإنسانية التي تقتضيها الفتوى. فالفتوى ليست مجرد معلومة تُستخلص من قاعدة بيانات، وإنما هي اجتهاد علمي دقيق يصدر عن عالمٍ يتحمل مسؤولية الكلمة أمام الله تعالى، ويدرك تأثيرها على الفرد والأسرة والمجتمع. فالمفتي يجب أن يكون ملمًّا بالنصوص الشرعية مدركًا للواقع وقادرًا على إنزال الحكم على الواقع، ومقدرًا لمآلات الفتوى، كما أنه يتعامل مع الإنسان، بحالته النفسية، وظروفه الاجتماعية، وسياقه الثقافي، وهو ما لا يمكن أن تدركه الآلة مهما بلغت دقة برمجتها.

وهناك تحدٍّ آخر بالغ الأهمية يتمثل في انحياز البيانات التي تبنى عليها هذه التطبيقات أحيانًا، فالذكاء الاصطناعي يتعلم من خلال ما يغذى به من بيانات، وهذه قد تكون محدودة أو تمثل اجتهادات فقهية أحادية، مما يؤدي إلى إصدار فتاوى غير دقيقة أو غير ممثلة للتنوع المذهبي والثراء الفقهي الذي يتميز به تراثنا الإسلامي. وهنا قد يتعرض المستخدم لتشويش أو انغلاق فقهي دون أن يدري.
كما أحذر من إشكالية انعدام الضمير أو الإحساس لدى هذه الآلات، فهي لا تخشى الله، ولا تعقل المقاصد الشرعية، ولا تشعر بمعاناة السائل، ولا تراعي الحكمة والرحمة التي يجب أن تتحلى بها الفتوى.
نحن في دار الإفتاء نُدرك تمامًا أن الفتوى لا تكون صحيحة إلا إذا جمعت بين الدقة في الاستنباط، والبصيرة في فهم الواقع، والرحمة في تطبيق الحكم، وهذا ما لا يمكن للآلة أن تحققه بمفردها.
لذلك، أؤكد أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يُستخدم في العمل الإفتائي بصفته أداة مُساعدة، وليس بديلًا عن المفتي الإنسان. نحن لا نرفض التقنية، بل نرحب بها إذا خضعت لضوابط شرعية ومهنية وأخلاقية دقيقة، تحفظ للفتوى قدسيتها، وتضمن سلامة المنهج، وتحمي المجتمع من التضليل أو الانحراف.
- كيف يوازن المفتي بين الحكمة الشرعية والابتكار التقني؟
هذا السؤال في غاية الأهمية، لأنه يمسّ جوهر التحدي الذي نواجهه في هذا العصر الذي تتسارع فيه التطورات التكنولوجية بشكل غير مسبوق.
فالمفتي يجب أن يوازن بين الحكمة الشرعية والابتكار التقني من خلال فهم عميق لنصوص الشريعة ومقاصدها، ثم إدراك دقيق لطبيعة التقنيات الحديثة. فالشريعة الإسلامية تُعلي من قيمة المصلحة ورفع الحرج، ولا ترفض التجديد أو التطور، ما دام ذلك يتم وفق ضوابط الشرع وأصوله. لذا، لا نرى تعارضًا بين الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي وتقديم الفتوى، بشرط أن تبقى هذه الأدوات خاضعة لإشراف العلماء وألا تنفرد بإصدار الأحكام.
في دار الإفتاء المصرية، نعمل على إدماج هذه التقنيات بشكل مدروس، فنستخدمها لتحليل الأسئلة، وتيسير الوصول إلى الأرشيفات الفقهية، لكنها لا تُستعمل أبدًا في إصدار الفتاوى دون تدخل بشري من علماء مؤهلين؛ فالفتوى ليست مجرد عملية حسابية أو تحليل لغوي، بل تتطلب إدراكًا للسياقات والنوايا وظروف السائل، وهذه أمور لا يمكن للآلة أن تستوعبها بمفردها.
والتوازن هنا يتطلب تأهيل المفتي علميًّا وتقنيًّا، وتوفير بيئة معرفية تجمع بين الفقهاء والمختصين في التكنولوجيا. فالحكمة في التعامل مع التطور التقني ليست في رفضه، بل في توظيفه لخدمة المقاصد العليا للشريعة، وحماية الإنسان وكرامته، وتيسير حياته دون المساس بثوابتها.
- ما آليات صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي من وجهة نظركم؟
صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي تتطلب مقاربة جديدة تجمع بين التأصيل الشرعي المتين والتأهيل المعرفي المعاصر. فالمفتي اليوم لا يكفي أن يكون حافظًا للمتون أو متمكنًا من علوم الشريعة فحسب، بل يجب أن يكون واعيًا بالتحولات الرقمية، مدركًا لأثر التكنولوجيا في تشكيل الوعي والسلوك، ومتمكنًا من أدوات تحليل الواقع واستيعاب مستجداته.

من هنا، تأتي أهمية تطوير مناهج إعداد المفتين لتجمع بين علوم التراث والعلوم الاجتماعية والرقمية، بحيث لا يُفتي بمعزل عن الواقع ولا ينجرف وراء مستحدثاته دون ضوابط.
ومن بين الآليات الأساسية التي نراها ضرورية: إدراج مواد عن الذكاء الاصطناعي وأثره في حياة الإنسان ضمن برامج إعداد المفتين، إلى جانب التدريب العملي على أدوات التكنولوجيا الحديثة، ومهارات تحليل البيانات وفهم اللغة الرقمية. كما نؤكد على أهمية تنمية الحس النقدي لدى المفتي، ليُحسن التمييز بين ما هو ثابت وما هو متغير، وبين ما يدخل ضمن وسائل العصر وما يُعدّ مساسًا بثوابت الدين. ومن الآليات المهمة أيضًا تعزيز الشراكة بين المؤسسات الإفتائية والمراكز التكنولوجية، لضمان استثمار التقنيات في خدمة الفتوى لا في تقويضها.
لذا نحن في حاجة إلى إنشاء وحدات بحثية متخصصة في الذكاء الاصطناعي، وإطلاق برامج تدريبية للمفتين تشمل مهارات التواصل الرقمي، وتحليل اتجاهات الفتوى في الفضاء الإلكتروني، إلى جانب التأكيد الدائم على مركزية الإنسان في الفتوى، لأن الذكاء الاصطناعي مهما تطور، يظل أداة لا تُغني عن بصيرة العالم وضميره، فالمفتي الرشيد في هذا العصر هو من يملك أدوات العصر وقلبًا نابضًا بالحكمة الشرعية.
- البعض يرى أن كثرة الفضائيات والقنوات الخاصة أدت إلى انتشار غير المؤهلين الذين قاموا بإصدار العديد من الفتاوى الشاذة والمثيرة للجدل…مارد فضيلتكم؟
هذا الرأي له وجاهته، وهو في الحقيقة أحد المظاهر المؤلمة في واقعنا الإعلامي والديني، فقد فُتحت المنصات الإعلامية على مصراعيها لكل من أراد الحديث في الدين أو الإفتاء، دون ضوابط علمية، أو مساءلة مهنية، والنتيجة أن بعض غير المؤهلين خرجوا على الناس بفتاوى غريبة، شاذة، مضللة، تحدث بلبلة، بل قد تشوه صورة الشريعة.
والأخطر أن بعضهم يتعمد الإثارة الإعلامية على حساب الدين، فيسوق الفتاوى الشاذة باعتبارها تجديدًا، ويُظهر الخروج عن الإجماع على أنه شجاعة فكرية. وهذا خلط بين التجديد المشروع، والانحراف الممنهج.
ونحن في دار الإفتاء المصرية واجهنا هذه الظاهرة عبر عدة مسارات: أولها التوعية الجماهيرية بعدم أخذ الفتوى إلا من الجهات الرسمية، وثانيها إنشاء مرصد لرصد هذه الفتاوى والرد عليها علميًّا، وثالثها إعداد كوادر مؤهلة تستطيع ملء الفراغ بالعلم الرصين والخطاب الجذاب.
- مؤخرًا صدَّق الرئيس”السيسي” على قانون تنظيم الفتوى ماذا تمثل هذه الخطوة؟
- بكل تأكيد هذه خطوة تاريخية مهمة طال انتظارها ، وتعد انتصارًا للمؤسسة الدينية بالكامل الرصينة ولجهود دار الإفتاء المصرية على مدى سنوات، حيث إن هذا القانون يعيد الاعتبار للفتوى الرسمية، ويمنع الفوضى والادعاءات ويضبط المجال العام الديني ويحاسب من يتصدر للفتوى دون مؤهلبات أو ترخيص، وقد عانينا كثيرًا من الفتاوى العشوائية سواء التى أساءت للدين وحرَّضت على الكراهية أو العنف ، والقانون الجديد يغلّظ العقوبات على منتحلى صفة الإفتاء ويعطى للدولة حق التدخل لضبط الخطاب الدينى وهو ما سيسهم في بناء وعى حقيقي قائم على العلم والانضباط.
- هل حدث تنافر واختلاف بين المؤسسات الدينية الثلاث( الأزهر والأوقاف والإفتاء) أثناء إقرار قانون الفتوى؟
- العلاقة بين الأزهر والإفتاء والأوقاف علاقة إيجابية وقوية، لأن هذه هى الصورة الصحيحة، وعندما تتوحد الجهات الثلاث في ما يتعلق بالقانون والإفتاء يتحقق كثير من الإيجابيات وينزوى اللغط، إضافة إلى التصدى لفوضى الفتاوى التى قد تخرج من بعض الأشخاص المدفوعين بالحماسة الدينية أو مآرب أخرى، ولكن تنقصهم الرؤية التى تحقق مقصد الشرع الحكيم، وتحفظ للناس أموالهم وأعراضهم ودينهم وأنفسهم، وهى المقاصد الخمسة الكبرى وتحفظ للوطن تماسكه، ونحمد الله أن الأزهر هو المظلة والمعهد الذى نستظل به علبى اعتباره أنه يمثل المؤسسة الأم، ثم تأتى دار الإفتاء ووزارة الأوقاف، والمفتون هم خريجو الأزهر الشريف أساسًا، فالعلاقة بين الجهات الثلاث علاقة تكامل لا تنافر وابتعاد.
- ماذا عن كارثة “غزة” وما مكانة القضية الفلسطينية فى عيون دار الإفتاء المصرية؟
- القضية الفلسطينية فى القلب دائمًا وفى صدارة القضايا، ، ومؤسسات الدولة المصرية بالكامل تدعم دائمًا قضية فلسطين، لتأكيد التضامن والوحدة والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني ضد الكيان المحتل الذى لا يرعى حرمة ولا يعرف للإنسانية كرامة، فنحن أمام كارثة بكل المقاييس وأمام أزمة غاب فيها ضمير العالم وهى وصمة عار في جبين الإنسانية وفى قلب العالم الذى يدعى العلم والمدنية، وفى النهاية فلن يضيع حق وراءه مطالب.
- نخشى من طمس الهوية الإسلامية لأبناء الأقليات الموجودة في الغرب سواء حاليًّا أو مستقبلا خاصة بين الأجيال التى ولدت وعاشت في الغرب وانقطعت عن دينها وأوطانها فماذا فعلت دار الإفتاء للمحافظة على الهوية؟
هذا الملف في غاية الأهمية، لا سيما في ظل تزايد حملات التشويه ضد الإسلام في بعض الدول، ومحاولات إذابة الهوية الدينية للمسلمين في الخارج. ودار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم تولي اهتمامًا كبيرًا بهذا الملف، انطلاقًا من مسؤوليتها العالمية، وحرصًا على وحدة الأمة وهويتها.
لذا أطلقنا العام الماضي من خلال الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، “ملتقى بحوث ودراسات فتاوى الأقليات المسلمة” ليكون بمثابة المظلة التي تجمع المهتمين بقضايا الأقليات وتقرّب بين وجهات النظر والآراء حول جميع ما يخص الأقليات وشؤونهم ومعوقات اندماجهم في مجتمعاتهم.
كما أصدرنا عددًا من الموسوعات بلغات متعددة، تتناول فقه الأقليات، وأساليب الاندماج الإيجابي في المجتمعات، دون التخلي عن الثوابت الدينية. كما نوجه فتاوى خاصة تتناسب مع بيئاتهم، وتجيب عن إشكالاتهم الواقعية، ونراعي فيها الخصوصية الثقافية والقانونية.
ودشنا تطبيق”فتوى برو” باللغة الإنجليزية والفرنسية لتكون منصة فقهية موثوقة للمسلمين حول العالم، ونشجع الشباب المسلم في الغرب على الحفاظ على هويتهم الدينية واللغوية، وارتباطهم بالمؤسسات الإسلامية المعتدلة.

- ما تقييمكم لحالة الفوضى في إصدار الفتاوى والاجتهادات الشرعية في العالم العربي واتخاذ البعض مجال الفتوى وسيلة لتضليل الناس والخروج على ثوابت الإسلام؟
ما نراه اليوم من فوضى في إصدار الفتاوى في بعض الدول والمجتمعات العربية هو أمر بالغ الخطورة، ويشكل أحد التحديات الكبرى التي تواجه العقل الديني المعاصر. الفتوى في أصلها وظيفة جليلة، ومقامها من أشرف المقامات في الإسلام، لأنها ترتبط بتوجيه الناس في أمور دينهم ودنياهم، وتشكّل جزءًا من الأمن الفكري والديني للمجتمع. لكن حين يتصدر لها من لا علم له، أو يستخدمها بعض المتطفلين على العلم كأداة لبثّ الفتنة أو تحقيق مآرب سياسية أو شخصية، فإن الفتوى تتحول من وسيلة هداية إلى وسيلة تضليل وهدم.
وقد رأينا كيف استغلت بعض الجماعات المؤدلجة وأصحاب الأفكار المتشددة أو المنحرفة عن صحيح الدين مجال الفتوى لتبرير العنف، ونشر الكراهية، والطعن في ثوابت العقيدة والشريعة، مستندين إلى فهم سطحي أو مغلوط للنصوص، بل أحيانًا إلى فتاوى ملفقة ومفتراة. هذه الظاهرة لا تقتصر على الجماعات وحدها، بل نجدها أيضًا في بعض المنصات الرقمية أو القنوات غير المنضبطة، حيث يمارس الاجتهاد بلا أدوات، وتقدم الفتوى بلا مرجعية ولا تحقق، مما يربك وعي الناس ويفقدهم الثقة في المرجعيات الحقيقية.
ولهذا نؤكد باستمرار على ضرورة تفعيل دور المؤسسات الدينية الرسمية المعتمدة، مثل دور الإفتاء، وهيئات العلماء، واللجان الشرعية، التي تملك الخبرة والعلم والانضباط المنهجي، والتي تتعامل مع الفتوى بمسؤولية وأمانة. كما نؤكد على أهمية التشريع والتنظيم القانوني لمجال الفتوىمن تقنين الفتوى وتجريم الفتاوى العشوائية التي تضر بالصالح العام. ونحن في دار الإفتاء المصرية نسعى إلى التصدي لهذا الخطر من خلال نشر الوعي الديني الرشيد، والتوسع في برامج تدريب المفتين، ورصد الفتاوى المتطرفة، وتقديم البديل العلمي الموثوق الذي يُحصّن المجتمعات من الوقوع في براثن الفوضى الفكرية والتشدد الديني.
- مؤخرًا ظهرت موجة اعتراضات على ثوابت ونصوص دينية وعقائدية ضاربين بقانون ازدراء الأديان عرض الحائط ممن يدعون أنهم يفكرون بلغة العصر… ما ردكم على ذلك؟
الطعن في ثوابت العقيدة، والتشكيك في النصوص الدينية خاصة القطعية، هو أمر مرفوض لا يمكن تبريره تحت أي مسمى، سواء كانت “حرية التعبير” أو “التفكير العصري”. فهناك فارق واضح بين التفكير والاجتهاد المشروع، وبين الهدم والتشكيك المقصود.
الإسلام لم يكن يومًا ضد التفكير، بل دعا إليه، وكرم العقل، وفتح باب الاجتهاد بضوابطه. أما ما نراه اليوم من تجاوزات، فهو عبث بالثوابت وتعدٍّ على المقدسات باسم التنوير، وهو في حقيقته تضليل وليس تفكيرًا، واستفزاز للمجتمع واستهانة بعقيدته وهويته.
ما يؤسف له أن بعض هؤلاء المتجاوزين يتكئون على وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي لبثّ أفكارهم، مستغلين ضعف الثقافة الدينية لدى البعض، ومحاولين زعزعة ثقة الناس في تراثهم الديني، متغافلين عن أن حرية التعبير ليست حرية في إهانة معتقدات الآخرين أو النيل من الثوابت الدينية التي أجمع عليها علماء الأمة عبر قرون. هذا النوع من الطرح ليس من الاجتهاد في شيء، بل هو لون من ألوان ازدراء الدين، وتشويه متعمّد لصورة الإسلام في نفوس الناس، وهو ما يتطلّب ردًّا علميًّا رصينًا، إلى جانب الحزم القانوني الرادع.
وهنا ندعو وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية إلى عدم الترويج لهؤلاء أو تقديمهم بوصفهم “مفكرين تنويريين”، بينما هم في الحقيقة يفتقرون إلى الحد الأدنى من العلم الشرعي أو حتى الموضوعية الفكرية. ونحن في دار الإفتاء نحرص على الرد العلمي والمنهجي على كل هذه المزاعم، وتوضيح الحقائق للناس، لأننا نؤمن أن التنوير الحقيقي لا يكون بهدم الثوابت، بل بتجديد الخطاب الديني في إطار الحفاظ على أصول الدين وثوابته.
- ماذا عن دور دار الإفتاء في قضية بناء الوعي؟
دار الإفتاء المصرية تضطلع بدور محوري في قضية بناء الوعي، باعتبارها من أهم القلاع العلمية والدينية التي تتعامل مع قضايا الناس الدينية والمعيشية بشكل مباشر، ومن ثم فإن تأثيرها في تشكيل الوعي العام، خاصة الوعي الديني، بالغ الأهمية. ونحن ندرك أن معركة اليوم ليست فقط معركة أمن أو اقتصاد، بل هي معركة وعي في المقام الأول، وعلينا أن نواجه موجات التشكيك والشائعات والتزييف الفكري بثقافة واعية، وعقل نقدي، ودين راسخ في النفوس.
ومن هذا المنطلق، عملت دار الإفتاء خلال السنوات الماضية على تعزيز حضورها في المشهد الفكري والثقافي من خلال العديد من المبادرات، مثل إنشاء «مركز سلام لدراسات التطرف»، الذي يشتبك مع قضايا التشدد والتكفير وخطاب الكراهية، وينتج خطابًا علميًّا بديلًا قائمًا على التأصيل والانفتاح المعرفي. كما أطلقنا مبادرة «بناء الوعي» التي تهدف إلى ترسيخ الفهم الصحيح للدين، ونقد القراءات المنحرفة، والرد على الشبهات المعاصرة التي تثار حول الإسلام. وكذلك قمنا بتطوير محتوى الفتوى لتكون أداة من أدوات بناء الوعي، لا مجرد إجابات على الأسئلة، فنحن نصوغ الفتوى بلغة عصرية، تراعي الواقع، وترد على الإشكاليات المطروحة، وتقدم للمسلم منهجًا متكاملًا للتفكير الرشيد.
كذلك، تسعى الدار إلى بناء الوعي عبر تدريب وتأهيل المفتين محليًّا ودوليًّا، من خلال الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، لتوحيد الجهود وتعزيز الخطاب الديني المعتدل في مواجهة دعاة الفوضى الفكرية والتطرف. وتعمل أيضًا على استخدام التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل بشكل احترافي، لنشر المعرفة الدينية السليمة، وتصحيح المفاهيم المغلوطة. فنحن نؤمن أن بناء الوعي لا يقتصر على مواجهة التطرف فقط، بل يمتد ليشمل التصدي للخرافة، ومكافحة الإلحاد، ودحض الشبهات، وترسيخ القيم الإنسانية في وجدان المجتمع، بما يحقق الأمن والاستقرار ويعزز مناعة الإنسان المصري والعربي ضد أي محاولات لزعزعة فكره أو انتمائه.
- كل يرى الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني وفق هواه… فما مفهوم تجديد الخطاب الدينى من وجهة نظركم؟ ولماذا يقتصر التجديد على الخطاب الدينى وحده؟ وما آليات التجديد في رأيكم؟
الحقيقة أن مسألة تجديد الخطاب الديني أصبحت من أكثر القضايا إثارة للجدل، لأن كثيرًا ممن يتحدثون عنها يفعلون ذلك دون ضبط للمصطلحات أو فَهم لطبيعة هذا التجديد، ولذلك نجد أن كلًّا منهم يفسر “التجديد” بحسب أهوائه ومراميه؛ فالبعض يراه تغييرًا في الثوابت، والآخر يظنه تعطيلًا للنصوص، بينما هو في حقيقته الشرعية والواقعية أمر أصيل في ديننا، ومفهوم منضبط بضوابط الشرع، وليس انخلاعًا من الدين أو خضوعًا لضغط الواقع.
وتجديد الخطاب الديني من وجهة نظرنا يعني إعادة تقديم الإسلام بفهم صحيح يراعي الثوابت التي لا تتغير، والمتغيرات التي تتطلب اجتهادًا مناسبًا للواقع. فليس المقصود تجديد الدين نفسه، بل تجديد آليات عرضه وفهمه وتوصيله للناس، بما يتلاءم مع طبيعة العصر ومستجداته، وبما يعيد الثقة في المرجعيات الدينية الراسخة ويزيل التشويه الذي ألحقته جماعات التشدد أو دعاوى التفريط. ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدد لها دينها”، أي يجدد الفهم، ويزيل ما علق به من تشويه أو تحريف أو سوء عرض.
أما لماذا يختزل التجديد في الخطاب الديني وحده، فهذه إحدى الإشكاليات الكبرى التي نعيشها اليوم؛ إذ إن واقعنا لا يحتاج إلى تجديد في الخطاب الديني فحسب، بل في كل مجالات الحياة: التعليم، والإعلام، والسياسة، والثقافة، بل وحتى الخطاب الاقتصادي والاجتماعي. فالدين ليس منفصلًا عن هذه المنظومات، بل يتقاطع معها في كثير من مفاصل الحياة، ولا يمكن أن نطلب من الخطاب الديني أن يُحدث تحولًا جذريا في وعي الناس بينما بقية المؤسسات تمارس ذات الأنماط القديمة في التفكير أو التواصل. فالتجديد ينبغي أن يكون مشروعًا مجتمعيا متكاملًا، وليس عبئًا يلقى فقط على كاهل العلماء والدعاة.
أما آليات التجديد من وجهة نظري، فهي تبدأ أولًا بإحياء منهج الاجتهاد المنضبط الذي يتكئ على أدوات العلم الشرعي الرصين ويستوعب واقع الناس واحتياجاتهم. ويجب أن يكون المجدد فقيهًا بالواقع كما هو فقيه بالنصوص. ثم لا بد من مراجعة الخطاب الدعوي والإعلامي والتعليمي، لنضمن اتساقه مع مقاصد الشريعة، ومراعاته لحاجات الشباب وتحديات العصر. كما يتطلب الأمر التوسع في تدريب العلماء على فنون التواصل، ومهارات التفكير النقدي، وتعميق فهمهم بالتغيرات الثقافية والتكنولوجية. ولابد من التفريق بين “الثوابت” التي لا مساس بها، و”المتغيرات” التي يجوز فيها النظر والاجتهاد، حتى لا يختلط الأمر بين التجديد والتبديد.
- هل تفعيل دور الفتوى فى إحياء معالم البناء الأخلاقي والقيمى من شأنه تعزيز صور التعاون والتعايش بين المجتمعات الإنسانية؟
نعم، بكل تأكيد. إن للفتوى دورًا جوهريًّا في البناء الأخلاقي والقيمي، وهي ليست مجرد أداة لإصدار الأحكام الشرعية في النوازل، بل هي عملية متكاملة تقوم على ترسيخ القيم، وبناء الوعي، وتعزيز السلوك الإنساني الرشيد. وعندما تُمارس الفتوى بشكل راشد ومسؤول، فإنها تسهم بفاعلية في تهذيب السلوك المجتمعي، وتحقيق الانضباط الأخلاقي، وتثبيت المرجعيات التي تضبط حركة الأفراد والجماعات. من هنا، فإن تفعيل هذا الدور للفتوى يسهم في تعزيز القيم المشتركة التي تعد أساسًا لأي تواصل أو تعايش إنساني.
ومن هذا المنطلق، فإننا في دار الإفتاء المصرية نحرص في فتاوانا وخطابنا الديني على التأكيد المستمر على أن الشريعة جاءت لإقامة العدل، والرحمة، والمصلحة، والتيسير، وهذه المبادئ الكبرى هي ما يُمكن أن يؤسس لثقافة تعايش حقيقي بين الشعوب والأمم.
ماذا عن دور الفتوى الرشيدة وعلاقتها بالنزاعات الدولية وما ضوابطها؟ والدور الذي يمكن أن تلعبه في إخماد الصراعات الدولية؟
الفتوى الرشيدة يمكن أن تكون عاملًا فاعلًا في إطفاء نيران النزاعات، لا سيّما في عصر تتشابك فيه القضايا الدينية مع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تتحول بعض النزاعات إلى صراعات تستغل فيها الفتوى لتأجيج العنف أو تأصيل الكراهية. وهنا تتجلى خطورة الفتوى إذا صدرت بغير علم أو خالفت مقاصد الشريعة؛ لأن الكلمة الدينية، عندما تُنتزع من سياقها وتُستعمل خارج إطارها، يمكن أن تكون شرارة لنزاع طويل، بدلًا من أن تكون مفتاحًا للسلام والتعايش.
لكن الفتوى الرشيدة، المستندة إلى نصوص الوحي وروح المقاصد، والمُنطلقة من فهم عميق للواقع وتعقيداته، تُسهم في رأب الصدع، وتهدئة التوترات، وبيان الأحكام الشرعية الحقيقية التي تدعو إلى السلام، وترفض العدوان، وتُعلي من قيمة النفس الإنسانية. فالشرع الحنيف ينهى عن البغي والعدوان، ويحث على العدل في التعامل حتى مع من نختلف معهم، ويؤسس لمبدأ {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
أما الضوابط التي ينبغي أن تحكم الفتوى في هذا السياق، فأهمها: العلم الراسخ، والفهم الدقيق للواقع، والتحقق من الملابسات، وعدم الانجرار خلف العواطف أو الضغوط السياسية، والتمسك بالمنهج الوسطي الذي يتسم به الإسلام. كما يجب أن تصدر الفتوى من جهة مؤسسية معتبرة، لا من أفراد غير مؤهلين أو منصات غير مسؤولة.
وفي هذا الإطار، تلعب دار الإفتاء المصرية -من خلال الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم- دورًا مهمًّا في توحيد الرؤى وضبط بوصلة الفتوى عالميًّا، وتقديم خطاب ديني رشيد يسهم في إطفاء حرائق النزاع، لا في إذكائها، ويعزز من قيم المصالحة، بدلًا من أن يكرّس الانقسام. نحن نؤمن أن الفتوى، حين تكون راشدة ومسؤولة، فإنها تصبح أداة للسلام، ومنبرًا للإنسانية، وجسرًا للتواصل بين الثقافات.
- تطرح التكنولوجيا الحديثة في عالمنا المعاصر السريع تحديات أخلاقية عديدة… كيف ترى هذا الطرح؟ وما أهم هذه التحديات من وجهة نظر فضيلتكم؟
التكنولوجيا الحديثة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، فرضت واقعًا جديدًا مليئًا بالتحديات الأخلاقية، أبرزها انتهاك الخصوصية وتحويل البيانات الشخصية إلى سلعة، وهو ما يتعارض مع تعاليم الشريعة التي تكرم الإنسان وتحمي خصوصياته. كما نشهد تحديًا خطيرًا في تزييف الحقائق ونشر الأخبار الكاذبة، بما يؤدي إلى تضليل المجتمعات وزرع الفتن.
ومن هنا، فإن الواجب على العلماء والمؤسسات الدينية أن يقوموا بدورهم في التوجيه، من خلال خطاب ديني عصري ومتزن، يضع معايير واضحة لاستخدام التكنولوجيا بما يخدم الإنسان ويحفظ كرامته، ويمنع توظيفها في تضليل المجتمعات أو انتهاك الثوابت والقيم.

- ماذا عن كيفية تحول مؤسسات الفتوى إلى العصر الرقمي؟
التحول الرقمي لم يعد خيارًا، بل أصبح ضرورة حتمية في عصرٍ يتسم بالتسارع التكنولوجي، وقد أولت دار الإفتاء المصرية اهتمامًا بالغًا بهذا الجانب، حيث وضعت خطة إستراتيجية لتحويل العمل الإفتائي إلى نسق رقمي متكامل. بدأنا بإطلاق منصات إلكترونية متعددة، وتطبيقات ذكية على الهواتف المحمولة، تقدم الفتوى الصحيحة بلغة معاصرة وسهلة، وتستهدف مختلف الفئات، خاصة الشباب.
التحول الرقمي ليس فقط تطويرًا للأدوات، بل هو تطوير لمنهجية التفكير الإفتائي نفسه، بحيث يستوعب تغيرات العصر، ويستفيد من معطياته لخدمة الدين والإنسانية في آن واحد.
- أطلقت دار الإفتاء تطبيقًا إفتائيًّاإلكترونيًّا عالميًّا بعنوان”فتوى برو”… هل تحقق الهدف المرجو منه لمواجهة فوضى الفتاوى؟
تطبيق “فتوى برو” يُعد من أبرز الإنجازات الرقمية التي أطلقتها دار الإفتاء المصرية في إطار رؤيتها لمواجهة فوضى الفتاوى، وفي سياق مواكبتها للتطورات التكنولوجية لخدمة المسلمين شرقًا وغربًا، تحت مظلة الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، وذلك خلال فعاليات مؤتمرها العالمي السابع «الفتوى وأهداف التنمية المستدامة» الذي عُقد في النصف الثاني من عام 2022، حيث بدءَ التشغيل الكامل لتطبيق Fatwa Pro للناطقين باللغتين الإنجليزية والفرنسية.
وتطبيق «Fatwa Pro»، هو تطبيقٌ إلكترونيُّ متعدد اللغات أُنشئ للتواصل مع الجاليات المسلمة- خاصة في الغرب- الناطقة باللغات الإنجليزية والفرنسية كمرحلة أولى ليكون بمثابةِ المفتي المعتدلِ والمعين لهم على الحصول على الفتوى الرشيدة المرتبطة بالأصل والمتصلة بالعصر دون إفراط أو تفريط.
ويسعى التطبيق إلى التركيز على وضع أقسام ثابتة تتضمَّن الإرشاد الديني والاجتماعي والنفسي للمسلم بشكل يجعله قادرًا على مواجهة مختلف المشكلات والأزمات، وتدعم دَورة عمل التطبيق مجموعة الخبراء والعلماء والمتخصصين والمترجمين؛ لضمان تقديم أعلى جودة من الخدمات الشرعية.
- في رأيك… كيف يمكن للمؤسسة الدينية أن تلعب دورًا في الإصلاح الأخلاقي ودعم حقوق الإنسان؟
المؤسسة الدينية تمتلك رصيدًا علميًّا ومعنويًّا وأخلاقيًّا كبيرًا في وجدان الشعوب، وهي من أهم الركائز التي يمكن أن تسهم في الإصلاح الأخلاقي وترسيخ منظومة حقوق الإنسان، خاصة إذا قامت بدورها بشكل متكامل يجمع بين الوعي الديني العميق والفهم الإنساني المعاصر. فالشريعة الإسلامية في جوهرها قائمة على حماية الكرامة الإنسانية، وصيانة الحقوق، وتحقيق العدالة والرحمة، وهذه هي ذات المبادئ التي تنادي بها مواثيق حقوق الإنسان.
من هذا المنطلق، فإن مسؤولية المؤسسة الدينية ليست فقط في بيان الحلال والحرام، وإنما تمتد إلى ترسيخ القيم العليا في المجتمع، مثل الصدق، والعدل، والإحسان، والرحمة، والتسامح. كما أنها مطالَبة بالتصدي لكل أشكال التمييز، والعنف، وانتهاك الحقوق، من خلال خطاب ديني معتدل يتسم بالحكمة ويفهم الواقع، ويبتعد عن الجمود والتشدد.
وهذا ما تعمل عليه دار الإفتاء المصرية بالفعل، سواء من خلال الفتاوى أو عبر منصاتها الإعلامية والتعليمية، إذ نسعى لترسيخ مفاهيم الكرامة الإنسانية، وحماية المستضعفين، ومناهضة العنف وخطاب الكراهية، ودعم ثقافة التعايش والتنوع، وهو ما يشكل أحد محاورنا الرئيسة في المبادرات الدولية، كـ”الميثاق العالمي للقيادات الدينية”، و”المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية”، ومركز الإمام الليث ابن سعد لفقه التعايش، وغيرها.
- هل من الممكن أن نعتبر أن التأهيل العلمي والإفتائي للأئمة إحدى خطوات تجديد الخطاب الديني ضمن مشروع دار الإفتاء للتجديد؟
لا شك، فالتأهيل العملي والإفتائي للأئمة والدعاة والعاملين في المجال الديني يعد من أهم ركائز مشروع تجديد الخطاب الديني بالتعاون مع المؤسسات الدينية المختلفة في مصر، وهو جزء لا يتجزأ من رؤية دار الإفتاء المصرية الشاملة للتجديد. فالتجديد ليس مجرد تغيير في الألفاظ أو طريقة العرض، بل هو في حقيقته تجديد في أدوات الفهم، وتحديث في الوسائل، وتعميق للوعي، مع الحفاظ على ثوابت الشريعة وأصولها الراسخة.
ومن هذا المنطلق، تعمل دار الإفتاء المصرية على إكساب الأئمة والدعاة مهارات التأهيل الفقهي، وفهم الواقع المعاصر فهمًا دقيقًا، إلى جانب التدريب على كيفية التعامل مع مستجدات العصر وإشكالاته الفكرية والاجتماعية. ولذلك أنشأنا العديد من البرامج الأكاديمية والتدريبية، إضافة إلى التعاون المستمر مع المؤسسات الدينية في مصر وخارجها.
- يطرح البعض شبهات متعلقة بأحاديث نبوية لمهاجمة كتب التراث وعلماء الحديث مثل “بعثت بالسيف بين يدي الساعة” و”جئتكم بالذبح”… فما ردكم على هذا الطرح؟
هذا الطرح في حقيقته قائم على قراءة مبتورة وسطحية للنصوص الشرعية، وانتزاع لها من سياقاتها التاريخية واللغوية والفقهية، بل ومحاولة لتشويه صورة الإسلام عبر اجتزاء عبارات نبوية دون فهم للمنهج الذي يتعامل به علماء الحديث والفقهاء مع هذه النصوص.
ما يقوم به البعض من مهاجمة التراث الإسلامي بهذه الطريقة هو اجتزاء انتقائي متعمد، يخدم خطاب الكراهية الموجه ضد الإسلام، ويُسهم في زعزعة ثقة المسلمين بتراثهم ومصادرهم. نحن لا نقدس التراث، ولكن نتعامل معه بعقل ناقد وفهم منضبط، يميز بين ما هو قطعي وما هو ظني، وبين ما هو من النص وما هو من فهم البشر للنص، دون أن نُسقط قراءات عصرنا على وقائع تاريخية لها سياقاتها الخاصة.
وإن مثل هذه الادعاءات تحتاج إلى تفكيك علمي رصين، وهذا ما تقوم به دار الإفتاء ومراكزها البحثية، من خلال الردود المنهجية، وإعادة عرض النصوص في ضوء المقاصد الكبرى للإسلام، ودحض القراءات المغرضة التي تتجاهل علمية المنهج الحديثي، وأدواته الصارمة في قبول الرواية وتحليلها.
- كيف يمكن نشر مبدأ الوسطية في المجتمعات الإسلامية؟
نشر مبدأ الوسطية في المجتمعات الإسلامية ضرورة شرعية ومجتمعية، لأنه يمثل جوهر الإسلام ومقصده الأسمى في بناء الإنسان وإصلاح العمران. والوسطية ليست موقفًا مترددًا بين طرفين، بل هي منهج متكامل قائم على الاعتدال في الفكر، والتوازن في السلوك، والانفتاح الواعي على الآخر دون تفريط في الثوابت ولا غلوّ في الفروع.
وتكمن البداية الحقيقية لنشر هذه الوسطية في إصلاح الخطاب الديني، بحيث يقدم الإسلام في صورته الحضارية الرحيمة، ويُبرز مقاصده العليا في الرحمة والعدل والتيسير، بعيدًا عن الصور المشوهة التي روجت لها جماعات التطرف أو التي فرضها الجهل أو سوء الفهم. وهذا الدور يقع بالأساس على عاتق المؤسسات الدينية الرسمية، وعلى رأسها الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، من خلال التأهيل العلمي الرصين، والمنابر الإعلامية والدعوية المعتدلة، والمناهج التعليمية التي تغرس في النشء قيم التسامح والحوار واحترام التنوع.
كذلك فإن تمكين مبدأ الوسطية يتطلب دعم الفتوى الرشيدة، التي تنطلق من الواقع وتفهم متغيراته وتستند إلى مقاصد الشريعة، بعيدًا عن الجمود أو التعصب.
- إلى أي مدى تستطيع المؤسسة الدينية فتح حوارات حول مفاهيم الإسلام الأساسية التي يثار حولها لغط كثير؟
المؤسسة الدينية قادرة تمامًا بل ومطالبة بفتح حوارات علمية رصينة حول المفاهيم الإسلامية التي يثار حولها لغط أو تشويه، سواء من جهات داخلية بدعوى التجديد، أو من أطراف خارجية تتعمد الطعن والتشكيك. فالحوار الجاد هو السبيل الأمثل لفهم الإسلام فهمًا صحيحًا، وهو الوسيلة الأنجع لرد الشبهات وتفنيد المغالطات، بعيدًا عن الانفعال أو التهوين.
فنحن لا نخشَى الحوار بل نرحب به، ما دام مبنيًا على المنهج العلمي والمنطق السليم، ويهدف إلى البناء لا الهدم. وقد خصصت دار الإفتاء وحدة ضمن إداراتها باسم “وحدة حوار”وهي وحدة غرضها القيام بالمهام الفكرية المتعلقة بالقضايا الشرعية وما يتفرع عنها من إشكالات اجتماعية ونفسية، وتقاطعات ذلك مع مباحث الفلسفة المعاصرة.
- هل حققت دار الإفتاء نجاحًا ملموسا في مواجهة الفكر المتطرف إلكترونيًّا؟ وكيف ترى تأثير وسائل التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي في تضليل فكر الشباب؟
نعم، بحمد الله، استطاعت دار الإفتاء المصرية أن تحقق نجاحًا ملموسًا ومؤثرًا في مواجهة الفكر المتطرف على الصعيد الرقمي والإلكتروني، سواء من خلال بناء بنية معلوماتية قوية أو من خلال تطوير آليات الرصد والتحليل والرد. فقد أدركنا مبكرًا أن معركة مواجهة التطرف لا يمكن أن تكسب بالوسائل التقليدية فقط، بل يجب خوضها في ساحات الفضاء الإلكتروني حيث تتمدد جماعات التطرف، وتروج أفكارها بأدوات عصرية تغري العقول الشابة وتخاطب عواطفها بلغة تبدو لهم جذابة.
من هذا المنطلق أيضًا أنشأت دار الإفتاء المصرية مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة الذي تطور بعد ذلك وأصبح مركزًا بحثيًّا كبيرًا وهو مركز سلام لدراسات التطرف والإسلاموفوبيا، وهو معني بدراسة التطرف ومناهج مكافحته والوقاية منه، ويسعى إلى تأصيل فلسفة الدولة المصرية ودار الإفتاء في نطاق المواجهة الفكرية الشاملة لظاهرة التطرف، ويعتبر “سلام” ترجمة مؤسسية لخبرات دار الإفتاء المتراكمة في مواجهة جماعات الفكر التكفيري بما تتضمنه من خبرات علمية ومعارف إفتائية ومدركات معرفية بمشارب التطرف.

- أخيرًا… ماذا عن مسئولية دار الإفتاء في تعزيز الحوار بين الأديان..وما أهم تحديات الحوار الديني في رأيك؟
دار الإفتاء المصرية تولي ملف الحوار بين أتباع الأديان أهمية كبرى، وتعده من أهم أدوات تعزيز السلم المجتمعي والتعايش الإنساني في عالم يموج بالتوترات وسوء الفهم. فنحن نؤمن أن الحوار الصادق والبنّاء بين أتباع الأديان السماوية هو واجب شرعي وإنساني في آن، وهو أحد سبل التعارف والتعاون الذي أقره القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. وانطلاقًا من هذا المبدأ، تقوم دار الإفتاء بدور فعّال في إطلاق مبادرات للحوار، والمشاركة في المؤتمرات العالمية، وإقامة جسور تواصل مع القيادات الدينية المتنوعة، من أجل خدمة القيم المشتركة، لا سيما القيم الأخلاقية والإنسانية الكبرى.
أما عن التحديات، فهناك عدد من العقبات التي تواجه مسيرة الحوار الديني، أبرزها التسييس المتعمد للدين، حيث يوظف الخطاب الديني أحيانًا لخدمة أجندات سياسية أو أيديولوجية، مما يعيق أي نقاش صادق. كذلك من التحديات وجود جماعات متطرفة، تسعى إلى ضرب أسس التعايش وتصنع خطابًا يقوم على الكراهية ورفض الآخر. كما أن بعض الوسائل الإعلامية غير المنضبطة تسهم في تشويه صورة الدين وإثارة النزاعات بدلًا من تهدئتها، ومع كل ذلك، نحن على يقين أن العمل الصادق والمؤسسي والمبني على احترام الآخر قادر على تجاوز هذه التحديات، ودار الإفتاء مستمرة في رسالتها العالمية، من خلال الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، في مد جسور التعاون مع مختلف الأطراف، لأننا نؤمن أن السلام العالمي يبدأ من الكلمة الطيبة والحوار المسؤول والتعاون المؤسسي المستمر.