ذكرى ميلاد رسول الإنسانية
بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى ـ مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
تعيش أمة الإسلام هذه الأيام ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فميلاده ميلاد أمة وميلاد فجر جديد سطع على البشرية ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد..
نعم تعيش أمتنا هذه الذكرى وهي تعيش هذه الأيام ظروفًا صعبة في ظاهرها، ولكنها تحمل في طياتها الخير الكثير لمستقبل الإسلام والمسلمين وللبشرية جمعاء.
اذا أردنا النهوض بأنفسنا وبهذه الأمة علينا أن نتبع سنة رسول الله صلى الله علية وسلم وأن نحيي ذكرى مولد رسول صلى الله عليه وسلم بمعرفة ما له من حقوق علينا وأن نؤدي ونتبع ونتتبع هذه الحقوق ونطبقها كما أرادها الله ورسوله العظيم، وأن نقرأ سيرة السلف كيف طبقوا محبته صلى الله علية وسلم قولاً وعملاً وعقيدة.
إنَّ الألْيَق بنا في هذه الذِّكرى المَجيدة أن نَستعرض العامَ إلى العام، ونأتي في هذا اليوم ننظر ما قُمنا به من أعمالٍ، أو اجتازَتْه أمَّتُنا من مفاخر العزَّة والخلود، وما قطعَتْه من أشواطٍ في طريق بِناء مجد الأمَّة، وفي سبيل توطيد أركان بناء الإسلام.
أنا لا أقول بأنَّ ميلاد الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم هو يوم معيَّن، أو شهر معيَّن، وإنَّما هو كل يوم، وكل شهر، يجب أن نَذْكر هذه الذِّكرى الطيِّبة في كل يوم وفي كل شهر، ونعرف أنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما جاء لِيُخرج النَّاس من الظلمات إلى النور ونوازن بين ما كانت عليه حالُ الأمة العربيَّة، وحال الدُّنيا جميعها قبل مبعثه وبعد مبعثه.
لقد كان العرب في جاهليَّةٍ جَهْلاء، وغطرسة ظالِمة، وعبادةٍ للأصنام، وبُغضٍ للعدل، وإقبالٍ على الشر، وإدمانٍ للخمر، ووأدٍ للبنات، وفي طبقيَّة أثارت البَغضاء بين الأغنياء والفقراء، وأنانيةٍ لَم تسكت الحرب بين مختَلِف القبائل في يومٍ من الأيام.
فجاءَهم رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بِهَديه، وإيمانه وإسلامه بِما اشتملَ عليه مِن مُثلٍ عُليا، وقِيَم في الخلق، وطريق التَّعامل النبيل، وبِما امتازَ به من تشريعاتٍ أحالَتْ ذلك المجتمعَ الظالم إلى مجتمع العدل والإخاء والمساواة، فمنع قَتْل القاتل التي طالَما أنشبَتْ حروبًا لمدَّة أجيال، وقطع يد السَّارق، أحال تلك الجزيرة العربيَّة إلى تلك المنطقة الآمنة التي بشَّرَ بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في أحلك أوقاته، وأشدِّ ظروف اضطهاده من قومه .
وقال: والله لَيُتِمنَّ الله هذا الأمر، حتَّى يسير الراكبُ من الحيرة إلى صنعاء، لا يَخاف إلاَّ الله، أو الذِّئبَ على غنمه.
وقد ذكَّرَهم الله سبحانه بنِعْمة الإسلام هذه، ونعمة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم عليهم، ووازَنَ لهم بين الحالتين.
فقال: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ﴾ [آل عمران: 103].
كذلك لَم تكن حالُ أكبر دولتين في هذا الوقت بأحسَنَ من حال العرب.
ثم يبيِّن معجزة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم الكبرى، وهي إحياء رُفَات البشرية بعد أن كان قد بَلِي عهدُه، ورثَّ حتَّى لم يَعُد هناك أمل في أمانٍ أو رغد، أو في عيشٍ يَليق بالإنسان كإنسان، إلى أن جاء الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم فأحيا هذا الرُّفات، وبعثَه أمة متينة البنيان، قويَّةً على الأيام، ملأت الدنيا عدلاً وخيرًا، وعِلمًا وبِرًّا .
هذا ما يجب علينا أن نعيش فيه دائمًا، وأن نَذْكر بعثة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم وميلاده بهذه الأمجاد وهذه الحيويَّة، وهذه الرحمة وهذه الهداية والنُّور، وأن نعرف دائمًا أنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم جاء رحمةً للعالَمين:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
وأنَّ مضمون هذه الرحمة، هو ما جاء به الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم من أخلاقٍ، وتشريعات ونظُم، كفيلةٍ بإيجاد أسعد حياة وأعَزِّها، ثم نعمل بهذا الدِّين لإيجاد تلك الحياة، ثم نأتي من العام إلى العام، ونَنْظر في كشف الحساب؛ لنرى كم حقَّقْنا من هذه الأمجاد، وكم خطوةً خطَوْنا نحو حياةِ التَّحرير، والعِزَّة والقوة والغلَبة، وكم بقي من الخطوات لِتَكتمل لنا حياةُ العزَّة، وحياة المَجْد، وحياة المؤمنين الأشدَّاء، والله الموفِّق إلى قَدْرِ ميلاد الرَّسول وبعثتِه وشريعته حقَّ قَدْرها.
