ثقافة الاعتذار

بقلم/ الشيخ د.حسن عبد البصير، وكيل وزارة أوقاف مطروح ونائب رئيس فرع منظمة خريجى الأزهر بمطروح

ربما غاب عن البعض أن ثقافة الاعتذار قديمة قدم وجود الإنسان وربما كانت بوحي إلهي ليتعلم الإنسان المخرج من وهدة الخطيئة ووحل الإثم.
قال تعالى ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) قِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُفَسَّرَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ )
وهي فوق ذلك تدعو الإنسان ليصحح خطأه ويراجع نفسه بدلا من أن يتنكب الطريق فيكسو الران قلبه وتعمى بصيرته ويعشى بصره لأن الاعتراف بالخطأ أول خطوة للإصلاح وبداية التوبة والسبب الرئيس لقبولها قال تعالى على لسان موسى حينما استخدم القوة في غير أوانها فقتل إنسانا ولو بغير قصد ( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) هنا اعتراف بالتقصير (فَاغْفِرْ لِي )وهذا اعتذار وتوبة ( فَغَفَرَ لَهُ ) وهنا سرعة الإجابة الدالة عليها الفاء التي أفادت التعقيب (إنه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )
وهذا يونس عليه السلام يعترف بخطئه في الهجرة ظانا أن الله لن يضيق عليه فإذا به في ظلمات بعضها فوق بعض في ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل فماذا كان نداؤه الذي ارتجت له السموات { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } اعترف بظلمه لنفسه اعتذر يأتيه الجواب سريعا ( فاستجبنا له ) وكانت نجاته من الكرب والغم
وانظر لهذه المرأة الحكيمة التي احتفل القرآن بذكرها ورفع من شأنها حينما ختم المطاف بقصتها أن قالت ( ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
اعترافها بظلمها لنفسها واعتذارها وتوبتها صحح مسارها ومسار أمة تابعة لها أسلمت قيادها لها فانتقلت بهم من الشرك إلى التوحيد ومن عبودية المخلوق لعبادة الخالق
ولقد رأينا من يخطيء ويتنكب الطريق ويسير على غير هدى ومع ذلك يستكبر عن الاعتراف بظلمه لنفسه أولا وبمعصيته لخالقه ثانية ويستنكف عن الاعتذار لأخيه الإنسان إذا أخطأ بحقه فلا يعيش سلاما نفسيا ولا سلاما اجتماعيا مع من حوله بل ضغائنه تزيد ومن حوله أشد كرها له وحنقا عليه .
هو لا يعلم أن رائده إبليس الملعون الذي أخطأ واقترف الإثم وعصى الخالق الذي ينبغي الامتثال لأمره والخضوع لنهيه فأبى أن يسجد لآدم كما أومر .
ومع ذلك استكبر وركبه الغرور وسولت له نفسه المريضة أنه صاحب الحق وأن من حقه الاستعلاء ( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) وأمثال هذا الذي لا يعترف بظلمه لنفسه لا تجدي معه النصيحة ولا ينفع معهم الحوار وهذا واضح من الخطاب الرباني له لتكون لنا العبرة والعظة
( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) 85
فمن ركبه الاستعلاء يسير في غيه ويتملكه الاستكبار فلا اعتذار ولا توبة ولا إصلاح لنفسه يرتجى ولا عودة عن غيه تُنْتَظَر
وكم رأينا بيوتا تهدم وعلاقات تتفكك ومصالح يصيبها البوار لغياب الاعتراف بالخطأ ومن ثَمَّ غياب ثقافة الاعتذار

ورأينا أناسا تَحَلّوا بالحلم وعرفوا بالود لو شعروا بأقل تقصير يبادرون بالاعتذار ويطلبون الغفران فعاشوا سلاما روحيا واجتمعت القلوب عليهم والأفئدة أحاطت بهم ورضي الله عنهم
وفي رأي الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه يرجع لقوة الشخصية ورغبتها في الإصلاح والعكس ضعف ووهن في النفس واستعلاء يودي بصاحبه رزقنا الله سلامة القلب والتواضع في غير مذلة والعزة في غير كبر

زر الذهاب إلى الأعلى