الإسلام.. والقبلتين
بقلم / أ.د عبدالخالق حسن يونس _ أستاذ الجلدية والتناسلية والذكورة بكلية الطب في جامعة الأزهر
في النصف من شعبان، ربط الإسلام بين المسجدين “المسجد الأقصى بفلسطين والمسجد الحرام بمكة المكرمة”، وربط بين القبلتين في بيت المقدس والكعبة برباط وثيق.
فكان تحويل القبلة إلى البيت الحرام، تعبيرًا عن تحديد هوية الأمة الإسلامية وتجسيدها في الاسلام وفي نفس الوقت كان تأكيدًا لتبعية بيت المقدس للإسلام.
ولذلك لم يكن عجيبًا أو غريبًا أن يحوز الإسلام على المسجدين والقبلتين في المسجد الأقصى ببيت المقدس وفي الكعبة المشرفة بالمسجد الحرام بمكة المكرمة، وكان من السهولة بمكان تبديل القبلة الأولى المتمثلة في المسجد الأقصى بالقبلة الثانية المتمثلة في الكعبة المشرفة بالمسجد الحرام لوجود ارتباط وثيق بينهما.
فكلا المسجدين وكلا القبلتين بنتهما الملائكة، فبدأت بالكعبة المشرفة بيت الله الحرام في مكة المكرمة، وبعدها تمَّ بناء المسجد الأقصى بعد بناء الكعبة المشرفة بأربعين عام، فالقبلتين تم بنائهما بواسطة الملائكة في حماية ورعاية الملائكة وبأمر من الله سبحانه وتعالى.
وتبديل المسجد الأقصى “القبلة الأولى” بالكعبة المشرفة “القبلة الثانية”، دليل قاطع على أن الله سبحانه وتعالى قد ضمَّ المسجدين والقبلتين والبلدين إلى حيازة الإسلام وانتقالهما، من حيازة أبناء إبراهيم عليه السلام في شخص إسماعيل وإسحاق عليهما السلام إلى حيازة الإسلام في شخص محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا ربط الإسلام بين المسجدين والقبلتين والمدينتين في القدس الشريف ومكة المكرمة برباط وثيق إلى قيام الساعة.
وهذا التبديل سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في الكون وآية من آياته الكبرى، فكل شيء في الكون يتم تبديله وتغيره بقدر وما يجري في الكون من آيات كبرى كانت موجودة قبل تبديلها، فكل شيء مخلوق قبل خلق الخلق وجاهز لرفع الستارة عنه في الوقت المناسب واللازم لظهوره بكن فيكون، مصداقًا لقوله تعالى: “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ” (يس: 82).
فتبديل السماوات والأرض، سوف يحدث بعد انهيار الكون الذي نعيش فيه، فالسماوات والأرض الموجودة الآن مؤقتة والسماوات والأرض الدائمة موجودة أيضًا ومخلوقة وجاهزة للتبديل بمجرد أن يأتي إليها الأمر من قبل الله سبحانه وتعالى، مما يعني أن الأمر لن يستغرق سوى “كن فيكون”، مصداقًا لقوله تعالى: “يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ” (إبراهيم: 48).
وهذا معناه أن هناك أرض جاهزة وهناك سماوات جاهزة يتم تبديلها بأرضنا وسماواتنا عند نهاية هذا الكون الذي نعيش فيه وبعد انهياره، فيحدث تبديل الأرض والسماوات الحالية والمؤقتة والتي نعيش فيها بأسباب الله سبحانه وتعالى إلى الأرض والسماوات الدائمة والتي نعيش فيها في نور الله سبحانه وتعالى.
وكما تتبدل الأرض بالأرض والسماوات بالسماوات، تتبدل آيات القرآن الكريم بآيات أخرى بأمر من الله سبحانه وتعالى لبيان الأحكام، كما قال تعالى: “وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” (النحل: 101).
وما يحدث من تبديل على مستوى آيات الكون من كواكب ونجوم ومجرات، يواكبه تبديل وتغيير على مستوى الخلايا والأنسجة والأعضاء والأجهزة في الإنسان وسائر المخلوقات الحية حتى لا تنقرض وتظل بحيويتها ونشاطها، حتى يتمكن الإنسان من حماية نفسه من الظروف البيئية التي تحيط به من كل مكان.
وهذا التبديل يحدث لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى، من أجل استمرار الحياة في الكون والحفاظ على زخمه وليس لأحد الحق في الاعتراض أو التدخل فيه ولا الحديث عنه أو التعليق عليه، لأنه أمر من الله سبحانه وتعالى لمخلوقاته، مصداقًا لقوله تعالى: “وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ” (يونس: 15).
وإذا كان التبديل سنة كونية ويحدث لشيء موجود بشيء غير موجود في الكون، فاليس من الأسهل والأقرب إلى تفكيرنا في أن يحدث تبديل موجود بموجود وهذا ما حدث مع القبلتين، من تبديل القبلة الأولى في بيت المقدس بالقبلة الثانية في الكعبة المشرفة، فهي سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في الكون ولن تجد لسنة الله تبديل أو تحويلًا، كما قال تعالى: “سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا” (الأحزاب: 62)، وقوله تعالى: “اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا” (فاطر: 43).
وكانت رحلة الإسراء والمعراج تأكيدًا من الله سبحانه وتعالى على انتقال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، فكل صلاة في القبلتين تُمثل إسراء بالجسد ومعراج بالروح إلى الملأ الأعلى، مما يؤكد حدوث رحلة الإسراء والمعرج بالجسد والروح.
ومن هنا لا يُمكن فصل رحلة الإسراء والمعراج في شقيها المادي والروحي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى عن تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام فهي عود على بدء، فالرحلة كانت من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وتغيير القبلة كان من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وهذا يؤكد في جملة ما يؤكد عمق العلاقة المادية والروحية بين القبلتين.
وما يمكن ملاحظته واستنباطه من مكانة المسجدين ومكين القبلتين، تأكيد تسليم الإسلام في شخص محمد صلى الله عليه وسلم وإعطاءه الحق الحصري في السيادة على المسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى وعلى تبعية القبلتين في بيت المقدس وفي البيت الحرام للإسلام.
وهذا معناه أيضا إعلان أمام الله سبحانه وتعالى وشهادة من الكون كله بسماواته وأرضه عن تسليم مراسيم القيادة والزعامة وزمام الريادة على بيت المقدس والقدس الشريف إلى الإسلام في شخص محمد صلى الله عليه وسلم وانتقالها من أبناء إبراهيم وزوجته سارة عليهما السلام إسحاق ويعقوب وأبنائهم وأحفادهم عليهم السلام إلى قيام الساعة.
وفي نفس الوقت إعلان أمام الله سبحانه وتعالى وشهادة من الكون كله بسماواته وأرضه عن تسليم مراسيم القيادة وزمام الريادة على البيت الحرام في الكعبة المشرفة وفي مكة المكرمة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وانتقالها من الابن الأكبر لإبراهيم من هاجر عليهما السلام إسماعيل عليه السلام وأبنائه وأحفاده من بعده إلى قيام الساعة.
فجمع الإسلام في شخص محمد صلى الله عليه وسلم بين المسجدين في المسجد الحَرام والمسجد الأقصى وجمع بين القبلتين في بيت المقدس بالقدس الشريف والكعبة الشريفة بمكة المكرمة، فحاز الإسلام في شخص محمد صلى الله عليه وسلم على الشرفين، فجمع له الله سبحانه وتعالى المسجدين والقبلتين وتسلم قيادة العالم الدنيوية والدينية بعد انتقالهما إليه من إبراهيم وأبنائه عليهم السلام إلى قيام الساعة.
وهذا ما يجعلنا نفهم السبب المحوري والرئيسي في الجمع بين المسجدين، المسجد الحرام والمسجد الأقصى في رحلة الإسراء والمعراج والجمع بين القبلتين في بيت المقدس بالقدس الشريف والبيت الحرام بمكة المكرمة، إيذانًا بانتقال كل ما يتعلق بأمور الدين والدنيا من ميراث إبراهيم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
الدكتور عبدالخالق حسن يونس، أستاذ الجلدية والتناسلية والذكورة بكلية الطب بجامعة الأزهر..