احترام الإسلام لحضارة الشعوب

بقلم فضيلة د.إبراهيم الهدهد رئيس جامعة الأزهر الأسبق، المستشار العلمي للمنظمة العالمية لخريجي الأزهر

إن الإسلام يؤمن بتعدد الحضارات، ويقرها، ويرسخ الإيمان بذلك فى قلوب أتباعه، والسيرة العطرة لرسول الله وصحبه الكرام، جسدت الإيمان بتعدد الحضارات وتنوع الثقافات، وتعاطت معها، واقعًا عمليًا فى خير جيل عرفته البشرية وهم القدوة والأسوة، والتقاء الحضارات معلم من معالم التاريخ الحضارى للإنسانية، وهو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه، وقد تم دائمًا وأبدًا وفق هذا القانون الحاكم التمييز بين ما هو مشترك إنسانى عام وبين ما هو خصوصية حضارية، والخيار البديل لصدام الحضارات هو أن تتفاعل الحضارات الإنسانية بما يعود على الإنسان والبشرية بالخير والفائدة، والاتجاه نحو البناء والاستجابة الحضارية لتحديات الراهن، عكس نظرية «صدام الحضارات»، التى تدفع الغرب بإمكاناته العملية والمادية لممارسة الهيمنة ونفى الآخر والسيطرة على مقدراته وثرواته تحت دعوى نزاعات العالم القادمة سيتحكم فيها العامل الحضارى.
إن الانعزال والتقوقع والانغلاق على الذات فى عالم اليوم، الذى تحول إلى قرية صغيرة بحكم التطور التقنى الهائل فى تكنولوجيا الاتصال، أمر مستحيل، كما أن الانسياق وراء الدعوة إلى حضارة عالمية واحدة هو بحد ذاته عملية تكريس لهيمنة الحضارة الغربية الكاسحة، وهو طريق التبعية الحضارية الذى يفقدنا خصوصيتنا الحضارية ويحولنا إلى مجرد هامش لحضارة الغرب، ولتجلية ذلك نبين مفهوم الحضارة وموادها، وما يلتبس بها من المصطلحات، كما نورد تعريف الآثار، لبيان وجه الحق فيما صنعته «داعش» بآثار العراق بدعوى أنها أصنام.

تعريف الحضارة

  • الحضارة فى اللغة: مشتقة من الحضر، وهم سكان المراكز العمرانية، كما أنها تعنى الإقامة فى الحضر وهى ضد البداوة؛ فالبدوى من كان من أهل البادية، والمدنى من كان من أهل الحضر.
  • الحضارة فى الاصطلاح: تعددت تعريفات الحضارة، وأجمع التعريفات أنها نسق معرفى مركب، والحضارة لا تكون شخوصًا قائمة خارج الإنسان، وإن ما هو خارج الإنسان من تراث فكرى أو فنى أو صروح مادية هى آثار حضارته ودلائلها ورموزها، والإنسان من كل جيل هو حامل حضارته من الماضى، ومنميها؛ فناقلها إلى جيل مقبل وشخصية الإنسان هى المجال الرئيس لاكتشاف أى حضارة؛ فهى إذن تشمل الرقى فى العلوم النظرية العقلية والتجريبية التطبيقية معًا، أى: الثقافة المدنية والمعنوية والمادية.
    ويقاربها مصطلحان آخران هما:
  • الثقافة: وهى تعنى الرقى فى الأفكار النظرية والعقلية فقط، وتتضمن الرقى فى القانون والسياسة والتاريخ والأخلاق والسلوكيات وسائر الأمور النظرية والفكرية (المعنوية).
  • المدنية: وهى تعنى الرقى فى العلوم التجريبية (المادية) كالطب والهندسة والكيمياء، والصناعة والزراعة وغيرها من الأمور التطبيقية.
    ومن هنا كانت الثقافة تحريرًا للإنسان وتقويمًا له، تضع له القوانين والأفكار المنظمة لحياته، وكانت المدنية سيطرة الإنسان على الكون والأشياء وخلق وسائل منها لإسعاد البشر؛ مما ينتج عنها استقرار يؤدى إلى التطور والتحضر وإنتاج ما نسميه الحضارة، والآثار بوصفها الحضارة المادية نعرفها فيما يأتى:
    تعريف الأثر فى اللغة: الأثر مفرد، والجمع آثار، وأثور، ويُطلق على معانٍ متعددة، منها: بقية الشىء، قال ابن منظور: الأثر- بالتحريك- ما بقى من رسم الشىء، والتأثر: إبقاء الأثر فى الشىء، وأثر فى الشىء ترك فيه أثرًا.
    تعريف الأثر فى اصطلاح الفقهاء: لا يخرج استعمال الفقهاء للفظ (أثر) عن المعانى اللغوية، وأكثر ما يستعمله الفقهاء للدلالة على بقية الشىء، أو ما يترتب على الشىء، كقولهم فى حكم بقية الشىء بعد الاستجمار: وأثر الاستجمار معفو عنه بمحله، وقولهم فى حكم بقية الدم بعد غسله: ولا يضر أثر الدم بعد زواله، ويطلقونه على ما يترتب على الشىء، فيستعملون كلمة أثر مضافة، كقولهم: أثر عقد البيع، وأثر الفسخ، وأثر النكاح.
    تعريف الآثار عند علماء الآثار: هى كل ما أنتجه الإنسان من عناصر مادية أو نتاج ثقافى، خلال تاريخه الحضارى.
    المواد الأثرية عند علماء الآثار نوعان:
  • الآثار الثابتة: مثل: المساكن، والحصون، والمعابد، والسدود، والآبار، والنقوش الصخرية على واجهات الجبال والمقابر.
  • الآثار المنقولة: مثل: الأوانى الفخارية والحجرية والزجاجية، والحلى والعملات، والمخطوطات.

أسس احترام حضارات الشعوب فى الكتاب والسُّنَّة
1ـ التعدد من سنن الله فى كونه:
الإسلام دين عالمى وهو خاتم الأديان، لذا فإن جوهر رسالته عدم إكراه الناس على دين واحد فالتعدد سُنَّة من سنن الله تعالى فى الكون، قال تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًاۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِۚ» (المائدة: 48). وقال أيضًا: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةًۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْۗ» (هود: 118- 119). وقال أيضًا: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّۚ…» (البقرة: 256).
2ـ الإيمان بالرسل والكتب السماوية شرط كمال إيمان المسلم:
وذلك واضح جلى؛ حيث يشترط لكمال إيمان المسلم إيمانه بالرسل والأنبياء والكتب السماوية المنزلة جميعًا، وذلك فى قوله- تعالى-: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ» (البقرة: 285).
بيد أنه لا يجوز أن يُفهم هذا التسامح الإنسانى الذى جعله الإسلام أساسًا راسخًا لعلاقة المسلم مع غير المسلم على أنه انفلات أو استعداد للذوبان فى أى كيان من الكيانات التى لا تتفق مع جوهر هذا الدين؛ فهذا التسامح لا يلغى الفارق والاختلاف، لكنه يؤسس للعلاقات الإنسانية التى يريد الإسلام أن تسود حياة الناس، فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضارى بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها.
3ـ الإسلام رسالة الله إلى الناس كافة:
وذلك واضح جلى فى قوله- تعالى-: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: 107) ومن دعوته المرتكزة على تنوع الشعوب والتعدد المجتمعي، ولا سبيل إلى الالتقاء إلا بالتعارف والتعاون وقد جاء ذلك فى قوله- تعالى-:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواۚ» (الحجرات: 13) .
4 ـ ارتكاز دعوة الإسلام على التسامح، والحوار لا الصدام، والتعايش لا التناحر:
جاءت نصوص القرآن والسُّنَّة المطهرة معلنة عن ذلك بكل وضوح، ومن ذلك:
أ ـ القرآن الكريم يدعو إلى التسامح:
إنما كانت سماحته- صلى الله عليه وسلم- نابعة من نور القرآن العظيم؛ ألم يأمره ربنا بالصفح عن أعدائه بقوله: «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» (الزخرف: 89)، وقد ذكر الطبرى تأويلها؛ فقال: يقول ـ تعالى- فى ذكره لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم-: جوابًا له عن دعائه إياه؛ إذ قال: «يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم يا محمد، وأعرض عن أذاهم، وقل لهم: سلام عليكم»، كما أمر الإسلام بالجدال الحسن؛ قال- تعالى-: «وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (العنكبوت: 46).
كما أمره بالصفح الجميل: «فاصفح الصفح الجميل» (الحجر : 85) ويقول: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (الأعراف: 199) وقوله- تعالى-: «قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (الجاثية: 14).
وقال تعالى: «وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِى اللَّـهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (البقرة: 109).
وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (التغابن: 14).
وقد أنزل الله عليه- بعد أن أظهره على أعدائه-قوله تعالى: «لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (الممتحنة: 8- 9).
والرسول يأمره ربنا بالسماحة مع الشرائع السابقة قائلًا: «قُل إِنَّنى هَدانى رَبّى إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ دينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًا وَما كانَ مِنَ المُشرِكينَ» (الأنعام: 161).
وقال تعالى: «إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّـهُ مُوسَى تَكْلِيمًا» (النساء: 163ـ 164).
ب ـ السُّنَّة المطهرة تدعو إلى السماحة:
روى الإمام أحمد فى مسنده عن ابن عباس-رضى الله عنهما- أنه قال : «قيل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم: أى الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة»، وقد استنبط الفقهاء من الحديث القاعدة المعروفة: المشتقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع.
وقال: «قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: اسمح يسمح لك ».
وكان- صلى الله عليه وسلم-: يمتدح العافين من أصحابه على الملأ، للتأسى بهم؛ فعن الحسن- رضى الله عنه- أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبى ضمضم كان إذا خرج من منزله قال: اللهم إنى تصدقت بعرضى على عبادك».
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «من كظم غيظًا، وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا، ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعًا كساه الله حلة الكرامة، ومن زوج لله توجه الله تاج الملك».

عقوبة من يروع غير المسلمين
إنه موقف من أعلى المواقف قدرًا، وأرفعها وأسماها لحبر من أحبار اليهود.. جاء زيد بن سعنة، وكان من أحبار اليهود إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطالبه بدَّين كان قد اقترضه منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجاء قبل موعد الوفاء وقال: يا محمد ألا تقضينى حقى فو الله ما علمتكم بنى عبد المطلب إلا مطلا، ولقد كان لى بمخالطتكم علم.. فنظر إليه عمر وعيناه تدوران فى وجهه كالفلك المستدير ثم رماه ببصره وقال: يا عدو الله أتقول لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أسمع، وتصنع به ما أرى؟ فو الذى نفسى بيده لولا ما أحاذر قوته لضربت بسيفى هذا رأسك. فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك أن تأمرنى بحسن الأداء وتأمره بحسن الطلب، اذهب به يا عمر وزده عشرين صاعًا من تمر مكان ما روعته».

تقدير نفس الإنسان أيًا كان دينه
أخرج البخارى فى صحيحه عن جابر بن عبدالله- رضى الله عنه-: «مرت بنا جنازة؛ فقام النبى- صلى الله عليه وسلم- وقمنا فقلنا: يا رسول الله إنها جنازة يهودى؛ فقال: أوليست نفسًا؟ إذا رأيتم جنازة فقوموا».
وما من ريب فى أن تلك النصوص والمواقف تريك أسس التعامل مع الآخر فى الإسلام، وهل يسع أتباع الدين الإسلامى تجاوز ما ذُكر فى الحوار والتعايش؟
4ـ الأصل فى الإسلام السلم.. والحرب استثناء:
لا أصرح فى ذلك من قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» (البقرة: 208) وقوله: «إِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (الأنفال: 61)، وقد نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن تمنى القتال، ودعا الصحابة إلى ذلك حين قال: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا»، ومِن ثمَّ فهو يعتبر الحرب خرقًا للسلام وجريمة ما لم تدع إليها حالات معينة تبيحها وتكون فيها عادلة ومشروعة.
نموذج من احترام الإسلام للحضارة المادية لغير المسلمين:

  • موقف الإسلام من الآثار:
    موقف شديد الوضوح بخصوص الآثار فى البلاد المفتوحة ويتجلى ذلك فيما يأتي:
    1ـ بقاء الآثار فى البلاد التى فتحها المسلمون الأوائل فى العهود الراشدة، فى مصر وفى غيرها، وكانت تلك الفتوحات بقيادة الصحابةـ رضوان الله عليهم- وهم أفضل جيل عرفته البشرية.
    2ـ أمر القرآن بالسير فى الأرض للاعتبار بآثار السابقين، وبيَّن مقاصد الإبقاء على الآثار، وشواهده كثيرة فى القرآن الكريم، من ذلك قوله- تعالى-: «كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (الروم: 9 ). وقال- تعالى-: «ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التى لم يخلق مثلها فى البلاد»، وقال تعالى: «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ» (يونس: 92).
    3 ـ على من يقول بهدم الآثار أن يدمر الشمس والقمر والبقر والشجر، وكل ما يعبد من دون الله الآن أن يزيلها، وهى تُعبد من دون الله.
    4ـ أن هناك فرقًا بين الأصنام والآثار، وهناك فصل إلهى بين النهى عن عبادة الأوثان على اختلافها، والموقف من الأشياء المعبودة، وما جاء فى قصة إبراهيم- عليه السلام- من تحطيم الأصنام، كان لإجراء المناظرة مع قومه؛ ففى وقت من الأوقات عبد بعض الناس الكواكب والشمس والقمر، وهى مخلوقات سخرها الله لخدمة الكون والناس، فهل يعقل أن نتخذ موقفًا سلبيًا من الشمس أو القمر وسواهما، وهذه الأشياء الكثيرة عبدها البعض اعتقادًا منه بأنها «تقربهم إلى الله زلفى»، يقول عز من قائل: «وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبدون» (فصلت: 37).
    وفى قصة إبراهيم- عليه السلام- عبرة كبيرة؛ إذ لم يستهدف الأصنام لذاتها، بل للنهى عن عبادتها، ولإجراء المناظرة مع قومه، ولو أنه حاربها لذاتها ما أبقى كبيرها، بل أبقاه لإجراء المناظرة وإقامة الحجة، بأن هذه الأصنام لا تنطق ولا تأكل ولا تدافع عن نفسها، ولا تأتى بأى فعل من قبيل ما قاله إبراهيم- عليه السلام- سخرية، عندما سئل من فعل هذا بآلهتنا فقال كبيرهم هذا، وقال- تعالى-: «وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ. إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ. قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ. قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ. قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ. قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ. فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ. قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ. قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ. قَالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ. قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ. فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ. ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ. قَالَ أَفَتَعْدون مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْدون مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ» (الأنبياء: 51- 70).
زر الذهاب إلى الأعلى