د. نادي عبد الله محمد
أستاذ الحديث وعلومه المساعد بجامعة الأزهر
إن لله عباداً قد ملأ حب الله قلوبهم، وعمرت الرغبة فيما عند الله أرجاءهم، فأنكروا أنفسهم، وأخفوا أعمالهم، وتجردوا لله وحده، يبتغون رضا الله ورضوانه، فما أجمل هذه النفوس الطيبة، والقلوب النقية، والنيات الصافية.. التي تخفى عن شمالها ما تنفق يمينها، هؤلاء الأنقياء الأخفياء الأتقياء أهل لمحبة الله وقربه، ووصاله ووده، قال رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم:” إن الله يحبُّ العبدَ التقيَّ الغنيَّ الخفيَّ”([1]).
من أهم وأعظم العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى الله عزوجل، عبادة السر وطاعة الخفاء، فهي دليل على صدق العبد في توجهه إلى الله، وعنوان الاخلاص له سبحانه وتعالى، ولا يستطيعها المنافقون، ولا يقوى عليها الكذابون، و لا يعرفها المدعون.
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال:” مَنِ استطاعَ منكم أنْ يكونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عمَلٍ صالِحٍ فلْيَفْعَلْ”([2]).
خَبْءٌ من عمل صالح: أي من الأعمال الخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد من الناس, خالية من الرياء, فتكون خالصة لله تبارك و تعالى مثل صلاة النافلة في جوف الليل أو صدقة السر أو أي عمل آخر من الأعمال الصالحة.
والمعنى أن من قدر منكم على أن يخفي عملا صالحا يكون بينه وبين الله، فيمحو به ذنوبه فليفعل ذلك حتى يكون تأكيدا لمعنى الإخلاص وطلب الأجر من الله وحده.
وهذه العبادة فيها الأجر الوفير والثواب العظيم، لأنها تكون خالصة لوجه الله تعالي ليس فيها رياء ولا سمعة، وبالعبادات الخفية ترفع الدرجات وتفك الكربات وتزال الهموم.
وأهل الخفاء همأهل الصِّدْق والعطاء، مجهولون في الأرض، معروفون في السماء، يُواسُون الفقير، وربما لا يراهم، ويعطون المحتاج دون أن يعرِفَهم، ولسان حالهم: ما نُطعِمُكم إلَّا لوجه الله، لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا.
هم الطليعةُ الذينَ انقطعُوا للعبادةِ فكانَ عملُهم سِرًّا،ذكر الذهبي في السير في ترجمة عبد الله بن داود الخريـبي، أنه رضي الله تعالى عنه قال: كانوا يستحبون -أي: السلف الصالح – أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها!([3]).
وعن سفيان قال: أخبرتني سرية الربيع بن خيثم قالت: “كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه “([4]).
إنهم الراكعون الساجدون في الخلوات، الذين وصفهم الله بقوله: ” كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ”( الذاريات:17).
بينهم وبين الله أسرار وأسرار، والله سبحانه وتعالى يعلم إسرارهم فكان خيراً لهم.
لا يأبون بمعرفة الناس لأعمالهم، وإنما يكتفون بمعرفة الله لهم، وكفى بالله شهيداً.
يذكرون الله في خلواتهم، وفي الخلوة لذة المناجاة، قال مسلم بن يسار: ” ما تلذّذ المتلذذون بمثل الخلوة بالله تعالى”([5]).
وقال محمد بن يوسف: “مَنْ أَرَادَ تَعْجِيلَ النِّعَمِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ مُنَاجَاةِ الْخَلْوَة([6]).
ودمعة الخشية في الخلوة سبب للاستظلال بظل الله سبحانه يوم القيامة، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله:” سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ” وذكر منهم ” ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ”([7]) .
وفي الحديث نفسه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صدقة الخلوة فقال ” ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ”.
وصدقة الخلوة أحرى ما يكون قبولها، لأنها خالية من الرياء والسمعة، وهي التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم:” صَنائعُ المعروفِ تَقِي مَصارعَ السُّوءِ، وصدَقةُ السِّرِّ تُطفئُ غضبَ الرَّبِّ، وصِلةُ الرَّحِمِ تَزيدُ في العُمُر([8]).
وقد ذكر الذهبي في السير وابن الجوزي في صفة الصفوة : أن علي بن الحسين رضي الله عنه كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل، فيتصدق به ويقول: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل)
ويقول الله عز وجل في شأن الصدقات :” إِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ”(البقرة:271).
وكذلك تلاوة القرآن في الخلوة من أعظم ما يصلح القلب ويوفق لحسن الختام، لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا بَكْرٍ بْنَ عَيَّاشٍ الْوَفَاةُ بَكَتْ أُخْتُهُ فَقَالَ: لَا تَبْكِ انْظُرِي إِلَى تِلْكَ الْخَزَانَةِ أَوِ الزَّاوِيَةِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ قَدْ خَتَمَ أَخُوكِ فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفٍ خَتْمَةٍ([9]).
وأخرج الامام الطبري ـ رحمه الله ـ عند تفسير قوله تعالى ” ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (سورة الأعراف:55) قال: عن الحسن قال: إنْ كانَ الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعرُ جارُه. وإن كان الرجل لقد فَقُه الفقهَ الكثير، وما يشعرُ به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْر([10])، وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدًا! ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول:”ادعوا ربكم تضرعًا وخفية”، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا فرضِي فعله فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) ،(سورة مريم: 3).
وتظهر أهمية العمل الصالح الخفي في تفريج الكربات وقبول الدعاء في حديث أهل الغار الذين سَدّت عليهم الصخرة، وتقطعت بهم الأسباب، فلم ينفعهم إلا التوسل إلى الله بخبايا أعمال صالحة لهم أحيطت بسياج من الإخلاص والعبودية لله عز وجل، فكانت سبباً لتفريج كُرَبهم وخروجهم من الغار.
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينما ثلاثة نفر يمشون، أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله بها لعله يفرجها عنكم.
قال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صِبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي أسقيهما قبل بني، وإني استأخرت ذات يوم فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما وأكره أن أسقي الصبية، والصبية يتضاغون عند قدمي حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله فرأوا السماء.
وقال الآخر اللهم إنها كانت لي بنت عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت منها فأبت علي حتى أتيتها بمائة دينار فبغيت حتى جمعتها فلما وقعت بين رجليها قالت: يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت، فإن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة ففرج.
وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجيرا بفرق أرز، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي، فعرضت عليه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا وراعيها، فجاءني فقال اتق الله فقلت اذهب إلى ذلك البقر ورعاتها فخذ فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فخذ، فأخذه، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج ما بقي، ففرج الله. وفي رواية فخرجوا يمشون”([11]).
ولقد ضرب سلفنا الصالح أروع الصور في التسابق والتنافس على إخفاء العمل الصالح، وحري بنا أن تقتدي بهم، فهذا عمر بن الخطاب كان يتعاهد عجوزا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل ، فيستقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها، فرصده عمر، فإذا هو بأبي بكر الصديق الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة ، فقال عمر : ” أنت هو لعمري([12]).
فلله دَرّهم من رجال ونساء أتقياء أنقياء أخفياء، رغبوا في الآخرة، وزهدوا في الدنيا.
ومن روائع ابن القيم ـ رحمه الله ـ قوله: (الخوافي للخوافي):
مرضك الذي لا يعلمه إلا الله اجعل له صدقةً خفيةً لا يعلمها إلا الله.
والضيق الذي في صدرك ولا يعلمه إلا الله اجعل له استغفاراً خفياً لا يسمعه إلا الله. القلق الذي يعتريك ولا يعلمه إلا الله اجعل له ركعتين لا يراهما إلا الله.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على حبيبنا وسيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم تقبّل منا وارحمنا برحمتك، وتوفّنا مع الصالحين الأبرار، واجمعنا مع الصالحين والصّديقين وحسن أولئك رفيقا.
ـ أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الزهد[1]
2ـ أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (35768)، وهناد في ((الزهد)) (2/444) وسنده صحيح.
[3]ـ سير أعلام النبلاء (9/349).
ـكتاب الزهد للإمام أحمد / 463.[4]
ـ الحلية لأبي نعيم (2/294). [5]
ـ الحلية لأبي نعيم (10/402).[6]
ـ أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1423).[7]
ـ أخرجه الطبراني في الكبير (8/312ح8014) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وسنده حسن. [8]
ـ الثبات عند الممات لابن الجوزي (100).[9]
ـ “الزور” (بفتح فسكون) جمع”زائر”، مثل”صاحب” و”صحب”.[10]
[11]ـ أخرجه البخاري ومسلم