قدسية البيت الحرام.. بقلم د. يوسف محمد المنسي عضو الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة بمجمع البحوث الإسلامية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وبعد:
فإن التاريخ الإنساني يكاد يكون ضمن مقرراته الكونية والإنسانية شخصية البلد الحرام، تلك البقعة الطاهرة المباركة التي أرادها الله لتكون ملتقى خلقه وعباده.
والحديث عن البلد الحرام له فضاءات كثيرة، لعل من أهمها أن نتحدث عند تاريخ البلد الحرام، وسر قدسيته، والقوة والمهابة التي تكسوه وتُزينه، والمنَعة التي يشعرها كل من زاره.
فمنذ أن جاء الأمر الإلهي لسيدنا إبراهيم عليه السلام بأن يرفع قواعد البيت، ظهرت تلك البقعة الطيبة من ملك الله على غيرها من البقاع، يقول الحق تارك وتعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] ومنذ الآذان الأول للخليل عليه السلام، تعلقت الأبدان والأرواح” { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]، وذاع صيت ذلك البيت كما أراده الخالق، فعظم الأعراب البيت، واعتبروه إرثا من جدهم الأكبر إبراهيم، وصار تعظيمهم البيت من عقائدهم ومفاخرهم؛ حتى أن كل من أراده بسوء خلوا بينهم وبينه، لعلمهم بخصوصية هذا البيت، وما تخليتهم هذه بتخلي، ولكنها إظهار لخصوصية ذلك البناء وقدسيته، وصارت تلك المزية تتناقلها الأجيال، وتُروى للأحفاد، ولقد غرس القرآن ذلك المعنى في نفوس متبعيه، حينما استنكر على العرب عنادهم وكبرهم، فذكرهم بأن الله حفظ عليهم بيوتهم وأعراضهم، كرامة لهذا البيت العتيق، فقال:” {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57]، وقال أيضا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)} [العنكبوت: 67]ومن تلك الأمور الخالدة عبر التاريخ، قبل قصة أبرهة مع البيت الحرام، حادثة أسعد الحميري والذي كان يُلقب ب” تبع”، فيروي الرواة: أن أسعد الحميري – وهو تُبَّع- كان متوجها إلى مكة حتى إذا كان بين عُسفَان وأَمَجٍ أتاه نفر من هُذَيلِ فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَلَا نَدُلُّكَ عَلَى بَيْتِ مَالٍ دَاثِرٍ أَغَفَلَتْهُ الْمُلُوكُ قَبْلَكَ، فِيهِ اللُّؤْلُؤُ وَالزَّبَرْجَدُ وَالْيَاقُوتُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ؟ قَالَ: بَلَى، قَالُوا: بَيْتٌ بِمَكَّةَ يَعْبُدُهُ أَهْلُهُ، وَيُصَلُّونَ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْهُذَلِيُّونَ هَلَاكَهُ بِذَلِكَ، لِمَا عَرَفُوا مِنْ هَلَاكِ مَنْ أَرَادَهُ مِنْ الْمُلُوكِ وَبَغَى عِنْدَهُ. فَلَمَّا أَجْمَعَ لِمَا قَالُوا أَرْسَلَ إلَى الْحَبْرَيْنِ، فَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَا لَهُ:
مَا أَرَادَ الْقَوْمُ إلَّا هَلَاكَكَ وَهَلَاكَ جُنْدِكَ، مَا نَعْلَمُ بَيْتًا للَّه اتَّخَذَهُ فِي الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُ، وَلَئِنْ فَعَلْتَ مَا دَعَوْكَ إلَيْهِ لَتَهْلَكَنَّ وَلَيَهْلَكَنَّ مَنْ مَعَكَ جَمِيعًا، قَالَ: فَمَاذَا تَأْمُرَانِنِي أَنْ أَصْنَعَ إذَا أَنَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ؟ قَالَا: تَصْنَعُ عِنْدَهُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُهُ: تَطُوفُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ وَتُكْرِمُهُ، وَتَحْلِقُ رَأْسَكَ عِنْدَهُ، وَتَذِلُّ لَهُ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْتُمَا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ إنَّهُ لَبَيْتُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ، وَإِنَّهُ لَكَمَا أَخْبَرْنَاكَ، وَلَكِنَّ أَهْلَهُ حَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بِالْأَوْثَانِ الَّتِي نَصَبُوهَا حَوْلَهُ، وَبِالدِّمَاءِ الَّتِي يُهْرِقُونَ عِنْدَهُ، وَهُمْ نَجَسٌ أَهْلُ شِرْكٍ- أَوْ كَمَا قَالَا لَهُ- فَعَرَفَ نُصْحَهُمَا وَصِدْقَ حَدِيثِهِمَا فَقَرَّبَ النَّفَرَ مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَنَحَرَ عِنْدَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ سِتَّةَ أَيَّامٍ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- يَنْحَرُ بِهَا لِلنَّاسِ، وَيُطْعِمُ أَهْلَهَا وَيَسْقِيهِمْ الْعَسَلَ، وَأُرَى فِي الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوَ الْبَيْتَ، فَكَانَ تُبَّعٌ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- أَوَّلَ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ ، وَأَوْصَى بِهِ وُلَاتَهُ مِنْ جُرْهُمٍ، وَأَمَرَهُمْ بِتَطْهِيرِهِ وَأَلَّا يُقَرِّبُوهُ دَمًا وَلَا مِيتَةً.
وإننا نجد صاحب السيرة” ابن هشام” يُعلق على فعل الهُزليين في ثنايا روايته بقوله:” وَإِنَّمَا أَرَادَ الْهُذَلِيُّونَ هَلَاكَهُ بِذَلِكَ، لِمَا عَرَفُوا مِنْ هَلَاكِ مَنْ أَرَادَهُ مِنْ الْمُلُوكِ وَبَغَى عِنْدَهُ”
وتكاد تكون تلك المعاني التي قالها ابن هشام هي بذاتها التي قالها الحبرين للملك تُبَّع الحميري، فَقَالَا لَهُ:
“مَا أَرَادَ الْقَوْمُ إلَّا هَلَاكَكَ وَهَلَاكَ جُنْدِكَ، مَا نَعْلَمُ بَيْتًا للَّه اتَّخَذَهُ فِي الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُ، وَلَئِنْ فَعَلْتَ مَا دَعَوْكَ إلَيْهِ لَتَهْلَكَنَّ وَلَيَهْلَكَنَّ مَنْ مَعَكَ جَمِيعًا”.
ولقد شاع ذلك الأمر عند العرب، وكانت تلك الواقعة قبل قرنين من البعثة النبوية تقريبًا، وتوالت الأمور التي تُظهر عزة هذا المكان وقدسيته.
وما جاءت تلك الأمور والحادثات إلا لتثبت المؤمن وتغرس فيه العقيدة الصالحة، وتجعله على ثقة في أمور حياته، من أن الذي حمى البنيان يحمى ويحفظ القلوب العامرة والمطمئنة بالإيمان.
ولا نجد أفضل من هذا الابتهال والدعاء النبوي في شأن هذا البيت العتيق لختام حديثنا:
“اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا، وزد من حجه أو اعتمره تعظيما وتشريفا.

زر الذهاب إلى الأعلى